سامح المحاريق : الأردن وفلسطين.. ما يُرى من مادبا ولا تراه لندن!

تجري فلسطين على ألسنة الأردنيين وتجول في أفكارهم وتفرض نفسها على حواراتهم بالصورة التي لا يمكن لدولة أخرى في العالم أن تدانيها أو تقاربها، وفي الفترات التي تعتبر اعتيادية، بمعنى أنها لا تشهد اشتباكات واسعة أو اضطرابات داخل الأرض المحتلة، ففلسطين تحضر في الحياة الأردنية بأكثر مما تحضر في بقية أنحاء العالم مجتمعة.
الأردنيون مسكونون بفلسطين، كانت قدرًا جغرافيًا وخيارًا قوميًا، وكثيرًا ما يصطحب الأردنيون ضيوفهم ويقفون على جبال عجلون والسلط ومادبا والكرك، وتمتد أذرعهم بالإشارة إلى الأفق ليقولوا بكل فخر وامتلاء نفسي: "هاي فلسطين، ولو الجو صافي رح تشوف ضواو القدس!"، هذه مسألة نفسية، ففي كثير من الأحوال، أعرف استحالة رؤية أضواء القدس من هذا المكان أو ذاك، ولكن ليس ثمة فائدة من إقناع الأردني أنه ليس قريبًا من القدس، ليس في حوضها النفسي والمعنوي، ولا طائل من محاورته حول فلسطين وحتمية التحرير، بل ودورًا مرتقبًا يريده له أو لأبنائه وأحفاده في ذلك.
الأردني شريك في الخسارة والفقد في فلسطين، على الأقل منذ الحروب الصليبية التي جعلته بعيدًا عن المتوسط وعالمه، وبين ضفتي نهر الأردن كانت حالات الاندماج الاجتماعي تجعل من المتعذر الفصل الوجودي بين سكان شرق النهر وغربه، ومنذ مطلع القرن التاسع عشر شهدت ضفتا النهر إزاحات سكانية في الاتجاهين مع اضطرابات النزاعات الأهلية والقروية التي حدثت بعد محاولات هندسة وإعادة هندسة المجتمع بعد حملة محمد علي في الشام.
تبدو هذه الأمور غائبة عن كثيرين مع محاولة استحضار الأردن كحالة طبيعية أو محايدة تجاه فلسطين، فهذه مسألة غير ممكنة، ومن يحاولون قياس المواقف الأردنية على مواقفهم يتناسون العمق التاريخي والواقع الجغرافي الذي يحكم العلاقة ويجعلها متداخلة بصورة لا يمكن إحالتها لتصورات السياسة ومصالحها، كما أن البلدين، في منظور أكثر جمعية، مثل القومي أو الإسلامي، يبقيان على حالة من الخصوصية من الصعب محاورتها تقليديًا أو حتى منطقيًا.
لذلك، تصبح محاولة التصيد في الماء العكر تجاه علاقة الأردنيين بالقضية الفلسطينية مغرضةً في جوهرها، لأنها تستهدف تعرية الفلسطينيين من عمقهم الاستراتيجي المتبقي، وتركهم وحيدين معنويًا وماديًا (على الرغم من الإمكانيات المادية المحدودة في الأردن) وذلك ما يخدم إسرائيل بصورة مثالية ويمكنها من تحقيق تفرد غير مسبوق، فما أجدى بالنسبة لدولة الاحتلال من معابر مغلقة بين البلدين، أو حالة من الارتياب والتهيب تأتي محل التلازم الوجداني والواقعي بين الشعبين؟ ألا يمثل ذلك قطعًا للحبل السُري الذي يتمسك به الفلسطينيون في الظروف بالغة الصعوبة والتعقيد.
لم يكتشف الأردنيون فلسطين بعد السابع من أكتوبر، ولم يعرفوا الأوضاع السيئة والحرجة في فلسطين عندما بدأت الفضائيات تنقل المقتلة في غزة، فالسؤال الفلسطيني يحضر في كل بيت أردني، وإذا كان البعض يرون العالم من منطلق الأرقام والمال، ولا يتصورون عالمًا آخر خارج هذه الاعتبارات، فهذه مسألة متعذرة الاحتساب بين الأردنيين والفلسطينيين، مستحيلة تقريبًا، لأن الأمر لم يقتصر يومًا على ما يقبل العد أو الوزن، فما هو عدد الدماء والدموع، وكم صرخة صامتة انطلقت للفضاء والأردنيون يتطلعون إلى الشمس التي ترتحل كل يوم من سمائهم تجاه فلسطين.
الأكذوبة التي تناقلتها بعض الأقلام والألسنة ليست مؤثرة على الحالة الأردنية الراهنة، ولا تقدم ولا تؤخر في مصفوفة الخيارات الأردنية المنحازة بطبيعتها لفلسطين وحقوق شعبها، ولكنها تبين غايات بعض الأطراف وإدراكهم أن محاولة توهين هذه الجبهة المشتركة من شأنها أن تحقق مصالحهم وتخدم حساباتهم.
هذه لغة عاطفية، ربما تخلو من التحليل السياسي وما يقتضيه من حصافة، ولكن ما لا يفهمه اللاعبون السياسيون الذين يترجمون كل شيء إلى أصوات وتصويت، أن الأمر بالفعل عاطفي، وأن الأردنيين من الملك عبدالله الثاني إلى أصغر طفل بدأ يعي العالم من حوله، لا يستطيعون توصيف حدود هذه العلاقة ومحاصرتها في الكلمات والأرقام.
ليس لشخص يقيم في لندن، أن يمتلك زاوية الرؤية الحساسة التي يحملها الأردني على جبال مادبا وهو يتطلع إلى الأفق ويحلف أنه يرى أضواء القدس، فهو وإن لم يكن يراها ببصره، فالأكيد أنها تحضر في قلبه ووجوده، وهذا الفرق بين من يرون فلسطين أرضًا وناسًا، ومن يرونها رقعة أرض أو وقفًا أو مصلحة استراتيجية.