الأخبار

د. رعد محمود التل : العقل الاقتصادي الفعّال

د. رعد محمود التل : العقل الاقتصادي الفعّال
أخبارنا :  

علم الاقتصاد ليس مجرد سردٍ لنظريات ولا تحليلٍ لبيانات وأرقام جافة، هو علم مركب يتعامل مع واقع معقد يتغيّر باستمرار. في جوهره، يُعنى الاقتصاد بكيفية استخدام الموارد المتاحة بأقصى كفاءة ممكنة لتعظيم المنفعة أو الربح أو الرفاه الاجتماعي، وتقليل الخسائر في مختلف صورها. لكن من هو الاقتصادي القادر على تحقيق ذلك؟ وهل هو الدارس لعلم الاقتصاد أم الممارس له؟ الاجابة هو الاقتصادي المحترف!

الاقتصادي المحترف هو ذاك الذي يُجيد المزج بين المعرفة الأكاديمية العميقة والقدرة على تطبيقها في الواقع، في ظل بيئة مليئة بالقيود والتحديات، فهو الذي يستطيع قراءة الواقع الاقتصادي كما هو، ومن ثم يحدد ما يُراد له أن يكون، فيُشخص المشكلات بدقة علمية، ويقترح حلولًا عملية قابلة للتنفيذ، تستند إلى تحليل منطقي ورؤية شاملة.

في الجامعات، ومنها الجامعة الأردنية التي تمنح درجات علمية متميزة (البكالوريس، الماجستير والدكتوراة) في علم الاقتصاد، يتعلم الطالب الاقتصاد كعلم تحليلي يعتمد على المنطق الرياضي والنماذج والنظريات. هذا التكوين مهم وأساسي، وهو جزء أصيل ومهم لصناعة "اقتصادي محترف". كما أن الممارسة الفعلية مهمة أيضاً وتتطلب ما هو أكثر من الفهم النظري، فهي تتطلب عقلًا ناقدًا، وقدرة على فهم الواقع، وربط التفاصيل الصغيرة بالصورة الكبرى، لذلك تم تطوير الخطط الدراسية بالجامعة كلها لتشتبك اشتباكاً ايجابياً بواقع سوق العمل واحتياجاته ومهاراته!

يحاول "الاقتصادي المحترف" من خلال النظريات التي تعلمها أولاً أن يشخص واقع الحال بصورة دقيقة، عميقة، وعلمية وهذا يتطلب ابتداء معرفة تلك النظريات وفهمها ومعرفة محدداتها، لكن ما هو مستوى المعرفة المطلوب؟ الاجابة هي للحد الذي يمكن ذاك الاقتصادي من الوقوف على التفاصيل ومن ثم متابعتها في سياقها الكلي اذا ما كان الحديث عن اقتصاد الدولة مثلاً.

الواقع الاقتصادي الذي نعيشه، خصوصًا في الدول التي تواجه تحديات مركبة كالأردن، يفرض أسئلة صعبة. كيف يمكن تطبيق النظريات الاقتصادية في ظل تفاقم الدين العام، وارتفاع أسعار الطاقة، وضعف الأجور، وتعقيد منظومة الحماية الاجتماعية؟ هل يمكن للنموذج الكلاسيكي (يرى السوق كفيلًا بحل مشكلاته تلقائيًا) أو الكينزي (يرى أن الدولة أحيانًا هي الوحيدة القادرة على إعادة التوازن) أن يعالج مشكلات بهذا الحجم دون أن يُعاد تكييفه؟ هنا يتضح الفارق بين الاقتصادي المنظّر، والاقتصادي المشتبك مع الواقع!

"الاقتصادي المحترف" يبدأ بالتشخيص الدقيق للمشكلة، مستخدمًا أدوات التحليل الكمي والوصفي، ويحدد موقع الاقتصاد الفعلي، ثم يقارن ذلك بالاقتصاد الممكن، أي ما يمكن تحقيقه فعليًا ضمن الإمكانيات المتاحة. هذه المقاربة بين الواقع والممكن هي جوهر عمله. إن كانت المؤشرات تسير باتجاه إيجابي، يعمل الاقتصادي على تعزيز الزخم وتسريعه. وإن كانت تتراجع، يضع خططًا لإعادة التوازن وتقليل الخسائر.

هذا النوع من التفكير يتطلب قدرة على التحليل متعدد المستويات سواء المستوى الكلي (اقتصاد كلي)، والمستوى الجزئي (اقتصاد منشآت وأفراد)، ويتطلب أيضًا فهمًا عميقًا للسياق المحلي: السياسي، الاجتماعي، الثقافي. فالاقتصاد لا يعمل في فراغ، بل ضمن بيئة مشبعة بالتفاعلات.

ويبقى السؤال: متى يشعر الناس بأثر القرارات الاقتصادية؟ رغم أن الإجابة ليست بسيطة، فإن الأثر يُلمس عندما تتحول السياسات إلى نتائج حقيقية، تحسن في الدخل، واستقرار في الأسعار، أو فرصة عمل جديدة. وهذا لا يحدث تلقائيًا، بل عندما تُصمم القرارات وتُنفذ باحتراف، كما حدث في بعض الإجراءات الأخيرة التي تعاملت باحترافية مع المشهد الاقتصادي المعقد. هنا يظهر دور "الاقتصادي المحترف"، الذي لا يرى علمه غاية نظرية، بل أداة للتغيير الواقعي.

رئيس قسم الاقتصاد – الجامعة الاردنية

مواضيع قد تهمك