حسام الحوراني : حرب الظل الرقمية: الذكاء الاصطناعي في قلب معركة الأمن السيبراني

في عالم رقمي لا ينام، باتت البيانات هي الذهب الجديد، والمعلومات هي العملة الأكثر تداولًا. وبينما تزداد الاعتمادية على الأنظمة الإلكترونية في جميع نواحي الحياة، من الهواتف الذكية إلى البنوك الرقمية، ومن المستشفيات إلى الحكومات، يزداد معها خطر الهجمات السيبرانية التي لا تعرف حدودًا. وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي، ليس فقط كأداة تكنولوجية مذهلة، بل كحليف استراتيجي حاسم في ميدان الدفاع السيبراني.
لطالما اعتمد الأمن السيبراني على تقنيات تقليدية، كجدران الحماية (firewalls)، وبرامج مكافحة الفيروسات، وأنظمة المراقبة اليدوية. لكنها لم تعد كافية في عصر التهديدات الذكية والهجمات المعقدة التي تُنفّذ أحيانًا باستخدام الذكاء الاصطناعي ذاته. نحن أمام سباق بين العقل البشري والآلة، وأحيانًا بين آلة وأخرى، حيث تتصارع خوارزميات الاختراق مع خوارزميات الحماية في معركة رقمية لا هوادة فيها.
الذكاء الاصطناعي لا يعمل فقط على صد الهجمات السيبرانية، بل يتعلم منها. يستخدم تقنيات التعلم الآلي (Machine Learning) لرصد الأنماط وتحليل السلوكيات، ما يمكّنه من التعرف على التهديدات حتى قبل أن تحدث. فإذا حاول مهاجم إلكتروني التسلل إلى نظام ما، يستطيع الذكاء الاصطناعي ملاحظة التغيرات الطفيفة في حركة البيانات، أو محاولات الدخول غير المألوفة، ليرفع التنبيه في أجزاء من الثانية، قبل أن يتمكن المخترق من التقدم.
ليس ذلك فحسب، بل يمكن للأنظمة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أن تقوم بردود أفعال تلقائية دون انتظار تدخل بشري، كعزل النظام المصاب، أو تعطيل المستخدم المشتبه به، أو إعادة ضبط الاتصال. هذا النوع من «الاستجابة التلقائية» أصبح ضرورة في عالم تسير فيه الهجمات بسرعة الضوء، ولا تحتمل تأخير القرار لثوانٍ معدودة.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل. فالذكاء الاصطناعي نفسه سلاح ذو حدين. المهاجمون السيبرانيون أصبحوا يستخدمونه بدورهم، سواء في توليد فيروسات أكثر تطورًا، أو في تنفيذ هجمات احتيال مقنعة تعتمد على تقليد الصوت أو النص بأساليب تجعل الضحية تصدّق أن الرسالة قادمة من مديرها أو من البنك. إنها حرب ذكية، لا تقل تعقيدًا عن أي صراع استخباراتي، ولكنها تدور في صمت على شاشات الحواسيب.
في هذا السياق، تتحول المعركة إلى سباق تكنولوجي محموم بين الخير والشر. الشركات والحكومات التي تتبنى الذكاء الاصطناعي لحماية أنظمتها هي الأقدر على الصمود، بينما تلك التي ما زالت تعتمد على أساليب الحماية التقليدية، فإنها مجرد أهداف سهلة في مرمى القراصنة.
من جهة أخرى، الذكاء الاصطناعي يقدم فرصًا لا تُقدّر بثمن في تحليل كم هائل من البيانات السيبرانية، واكتشاف الثغرات الأمنية، والتنبؤ بمناطق الضعف في البنية التحتية قبل أن تُستغل. يمكنه إجراء محاكاة لهجمات محتملة، وابتكار سيناريوهات واقعية للتدريب على التعامل مع الكوارث الرقمية.
في المؤسسات الكبرى، بدأت أقسام الأمن السيبراني بالتحول إلى ما يشبه «مراكز قيادة استخباراتية»، تقودها أنظمة ذكية ترصد وتراقب وتتصرف بسرعة ودقة لا يضاهيها العقل البشري. وفي المستقبل القريب، من المتوقع أن تُدار أنظمة الأمن بالكامل بواسطة منصات ذاتية التعلّم، تتحسن باستمرار وتُحدث نفسها آليًا دون تدخل خارجي.
أما على مستوى الأفراد، فالذكاء الاصطناعي قد يتحول إلى حارس شخصي رقمي. تخيّل نظامًا ذكيًا على هاتفك يتعرف على سلوكك اليومي، ويمنع التطبيقات الخبيثة، وينبهك إن حاول شخص ما سرقة بياناتك أو انتحال هويتك. هذه ليست خيالات، بل منتجات حقيقية قيد التطوير في شركات التكنولوجيا الكبرى.
ورغم هذا التقدم، لا يزال هناك تحديات حقيقية، أبرزها الخصوصية والأخلاقيات. فحين يمتلك نظام ذكي القدرة على مراقبة كل شيء لحمايتك، من يضمن ألا يُستخدم هذا النظام ذاته في انتهاك خصوصيتك؟ كيف نوازن بين الحاجة إلى الأمان، والحق في الحرية الرقمية؟
الجواب لا يكمن في إيقاف التطور، بل في تقنينه. لا بد من وضع أطر تنظيمية واضحة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في الأمن السيبراني، مع ضمان أن تكون هناك رقابة بشرية وشفافية في استخدام هذه الأدوات. فالذكاء الاصطناعي يجب أن يبقى حليفًا، لا سيدًا.
في الختام، الذكاء الاصطناعي لن يُنهي التهديدات السيبرانية، لكنه سيغير قواعد المواجهة. نحن ندخل عصرًا جديدًا من الأمن الرقمي، حيث تتصارع العقول الإلكترونية لحماية أو تدمير العالم الرقمي. فهل نحن مستعدون؟ وهل نملك الجرأة على تسخير الذكاء الاصطناعي في بناء حصوننا الرقمية، دون أن نحولها إلى سجون تراقبنا دون رحمة؟ إنها معركة العقول... في زمن الآلة.