الأخبار

د. محمد العرب : التلاعب الخفي: سلاح العقل في عصر السيطرة

د. محمد العرب : التلاعب الخفي: سلاح العقل في عصر السيطرة
أخبارنا :  

في زمن لم يعد فيه السلاح مجرد طلقة ولا المعركة مجرد مواجهة جبهات، ظهر سلاح جديد أكثر دهاءً، يتسلل بهدوء إلى العقول ليشكل الواقع قبل أن يدركه الناس ، إنه علم النفس الأسود ، المنطقة المظلمة من علم السلوك الإنساني حيث لا تبحث المعرفة عن العلاج بل عن التوجيه، ولا يكون الهدف شفافية النوايا، بل السيطرة والتلاعب.

يولد الإنسان كصفحة شبه بيضاء، خائفاً من المجهول، تواقاً للانتماء، ضعيفاً أمام أولئك الذين يبدون أكثر ثقةً وقدرةً على تعريف الحقيقة !

في هذا الفراغ النفسي، يزدهر علم النفس الأسود، حيث يتحول الذكاء إلى مصيدة، والحنكة إلى فخاخ عاطفية وفكرية، ويصبح التحكم في السلوك البشري فناً بحد ذاته. ليس الأمر مجرد إعلان دعائي أو حملة انتخابية بل منظومات معقدة تحركها غرف مظلمة تعرف كيف تستثمر نقاط ضعف البشر: القلق، الخوف، الطموح، الحاجة للحب والقبول، وحتى الغضب والغيرة. هذه المشاعر ليست عيوباً شخصية، بل بوابات مفتوحة لمن يتقن هندسة العقول.

ينطلق المبرمجون النفسيون من مبدأ أن كل إنسان يحمل داخله ثغرات قابلة للاستغلال: كلمة في الوقت المناسب، صورة تثير الشك، تكرار فكرة حتى تصبح قناعة. هنا لا يحتاج المهاجم أن يحمل سلاحاً أو أن يقتحم الأسوار، بل يكفي أن يبث فكرة بسيطة كقطرة سم في جدول ماء، تنساب مع الوقت حتى تستولي على كامل التيار. هل تعتقد أنك تفكر بحرية؟ راقب كيف تتغير ميولك ببطء، كيف تدمن متابعة خبر معين، كيف تتبدل قناعاتك السياسية والاجتماعية دون وعي واضح متى ولماذا ؟

هذا هو التسلل الخفي الذي يجعلك تعتقد أنك حر، بينما أنت تسير وفق خطة رسمها خبير في الظلال.

الإعلام، بمختلف أنواعه، هو الميدان الأوسع لمعارك علم النفس الأسود. تظهر الصورة البريئة أو الخبر المحايد كطلقة البداية، لكن خلف الشاشة، يعمل فريق من الاستراتيجيين النفسيين على صناعة سيناريوهات كاملة تؤثر في اللاوعي الجمعي، تثير الهلع أو الأمل أو حتى اللامبالاة، حسب الحاجة. في الأزمات، يُستخدم التهويل لتضخيم الخطر أو طمسه، حسب مصلحة اللاعب الأكبر. وحين تصبح الحقيقة ذاتها سلعة، يصبح الجمهور فريسة سهلة لكل من يتقن فنّ الرواية الكبرى، حيث يتم اختيار الضحية، والمجرم، والبطولة، فقط من خلال إعادة ترتيب السرد.

أكثر ما يُخيف في علم النفس الأسود هو غياب الحدود الأخلاقية. هنا لا وجود لمعيار (الخير) و (الشر) إلا بقدر ما يخدم غاية التوجيه المطلوب. يتم تخليق الشائعات، وتضخيم التهديدات، وصناعة الأصنام أو الشياطين من شخصيات عامة أو أفكار، لإعادة تشكيل البيئة الذهنية للجمهور. هل تتساءل لماذا يبدو الناس فجأة أكثر خوفاً، أو أكثر حماسةً لقضية لم تكن تعنيهم يوماً؟ غالباً هناك من دفعهم لهذا القلق أو الحماس، بخطط تبدأ من مختبرات علم النفس وتنتهي في الميادين والساحات الافتراضية.

التأثير العميق لعلم النفس الأسود يتجاوز السياسة والإعلام ليصل إلى الاقتصاد والاجتماع. يخلق القلق المتعمد حول المستقبل، أو الإحباط من الحاضر، أرضية خصبة لتسويق منتجات أو فرض خيارات اقتصادية معينة. يتم هندسة الخطاب بحيث يشعر الفرد بالعجز أمام الحاجة أو الفشل إذا لم ينضم للتيار أو يشتري المنتج أو حتى يتبنى الفكرة. وفي العلاقات الاجتماعية، يتحول التلاعب إلى مرض متفشي، حيث يُستخدم الذكاء العاطفي كأسلوب للهيمنة، ويصبح الاستغلال المقنع جزءاً من ديناميكية المجتمع نفسه.

كلما زادت الفوضى، احتاجت المجتمعات إلى (منقذ) وهنا يكمن أخطر أنواع التلاعب، إذ يُصنع البطل كما تُصنع الأزمة، وتُصاغ الحاجة كما يُصاغ الخوف. قد تكون الحلول المعروضة جزءاً من المشكلة ذاتها، لكن العقول المثقلة بالخوف تبحث عن أية طوق نجاة دون تمحيص. وهكذا، يتم تدوير الأزمة من جديد، ويعاد إنتاج نفس السيناريو لكن بوجوه وألوان جديدة.

قد يبدو كل ذلك مخيفاً، لكن الوعي هو الدرع الأول في مواجهة هذه الهجمات. حين تدرك أنك مستهدف لست لذاتك فقط، بل كحلقة في منظومة أكبر، تبدأ في الشك الصحي، في اختبار المعلومات، في تأمل دوافـع من يدفعك للحماس أو الرعب أو حتى السخرية من كل شيء. المقاومة هنا ليست عسكرية، بل عقلية: أن تتعلم كيف تفكر مرتين قبل أن تصدق أول من يتحدث، أن تعيد ترتيب أولوياتك بعيداً عن الضجيج، أن تخلق لنفسك مسافة آمنة بينك وبين سيل التأثيرات اليومية.

ختاماً يظل علم النفس الأسود حقيقة لا يمكن الهروب منها في عالم تنافسي محموم. لكنه في الوقت ذاته دعوة للاستفاقة: ألا تكون مجرد رقم في حسابات الآخرين، وألا تتحول من إنسان حر إلى متلقي سلبي أو وقود لمعارك لا تعرف مصدرها ولا نهايتها. فالمعركة الأهم اليوم لم تعد في الشوارع أو الحدود، بل داخل الرأس حيث يصنع كل شيء، وينتهي كل شيء.

مواضيع قد تهمك