الأخبار

حسام الحوراني : السياسات الضريبية والاقتصاد الرقمي: توازن بين التحفيز والتنظيم

حسام الحوراني : السياسات الضريبية والاقتصاد الرقمي: توازن بين التحفيز والتنظيم
أخبارنا :  

في عالم يتحرك بوتيرة متسارعة نحو الرقمنة، لم يعد الاقتصاد الرقمي مجرد قطاع ناشئ، بل أصبح أحد الأعمدة الأساسية للنمو الاقتصادي العالمي. من التجارة الإلكترونية إلى العملات الرقمية، ومن الذكاء الاصطناعي إلى الحوسبة السحابية وحواسيب الكم، يشهد العالم تحولًا جذريًا يعيد صياغة مفاهيم الاقتصاد التقليدي ويطرح تحديات جديدة أمام صُنّاع السياسات، وعلى رأسها: كيفية صياغة سياسات ضريبية تُحفّز الابتكار وتدعم النمو، دون أن تُعيق تطور هذا القطاع الحيوي.
يتميز الاقتصاد الرقمي بخصائص تختلف جوهريًا عن الاقتصاد التقليدي، أهمها الطابع العابر للحدود، وسرعة التغير، والانسيابية الرقمية في العمليات. لقد أصبحت شركات مثل أمازون، وغوغل، وعلي بابا، لاعبين عالميين يتجاوز تأثيرهم الحدود الجغرافية، إلا أن هذه الشركات كثيرًا ما تُتهم باستغلال ثغرات الأنظمة الضريبية لتحقيق أرباح ضخمة دون دفع ما يتناسب من الضرائب، وهو ما يُفقد الدول، لا سيما النامية منها، عوائد مهمة كانت ستُسهم في دعم اقتصاداتها ومجتمعاتها.
في هذا السياق، تجد الحكومات نفسها أمام معادلة دقيقة: كيف توفّر بيئة ضريبية جاذبة للاستثمارات الرقمية، دون التضحية بمبدأ العدالة الضريبية؟ فرض الضرائب المفرطة قد يثقل كاهل الشركات الناشئة ويُبطئ الابتكار، بينما يؤدي التغاضي عن الشركات العملاقة إلى إخلال بعدالة السوق وحرمان الدولة من إيرادات مشروعة. من هنا، يصبح من الضروري تحقيق توازن ذكي بين التحفيز والتنظيم.
السياسات الضريبية الذكية يمكن أن تكون أداة استراتيجية لتعزيز الاقتصاد الرقمي. تقديم حوافز ضريبية للشركات التي تستثمر في البحث والتطوير، أو في التقنيات المستدامة، من شأنه أن يُعزز القدرة التنافسية للدولة على المستوى العالمي. كما أن اعتماد نماذج مرنة للضرائب يساعد في استيعاب الديناميكية العالية لهذا القطاع.
من ناحية أخرى، فإن الأدوات التقليدية لتحصيل الضرائب لم تعد مناسبة لهذا الواقع الرقمي المتغير. فمع انتشار العملات المشفّرة، وازدهار المنصات الإلكترونية العابرة للحدود، بات من الضروري تبني تقنيات حديثة مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات لبناء أنظمة ضريبية ذكية وشفافة قادرة على التكيّف مع التعقيدات الجديدة.
بالنسبة للأردن، يمثل الاقتصاد الرقمي فرصة استراتيجية لتعزيز النمو وجذب الاستثمارات، شريطة تطوير سياسات ضريبية متوازنة تدعم الابتكار وتضمن العدالة. وفي هذا الإطار، يمكن النظر في المقترحات التالية:
1. تصميم إطار ضريبي مخصص للشركات الرقمية: يشمل فرض ضرائب عادلة على الشركات العالمية التي تحقق أرباحًا من السوق المحلي دون وجود فعلي، مع تقديم إعفاءات مرحلية للشركات الناشئة المحلية لتحفيزها على النمو.
2. تحفيز الاستثمار في التكنولوجيا والابتكار: عبر حوافز ضريبية موجهة للمشروعات العاملة في الذكاء الاصطناعي، وحواسيب الكم، والحوسبة السحابية، والتقنيات الناشئة، بما يُعزز من تنافسية الأردن إقليميًا.
3. تحديث البنية التحتية الضريبية: من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التحليل والكشف عن التهرب الضريبي، وتطوير أنظمة رقمية متقدمة لتحسين الكفاءة والشفافية.
4. تنظيم العملات الرقمية: عبر وضع إطار قانوني واضح ينظم التعاملات بالعملات المشفرة، ويضمن فرض ضرائب منطقية على أرباحها دون الإضرار بالتكنولوجيا المالية الناشئة.
5. دعم التجارة الإلكترونية المحلية: من خلال إعفاءات ضريبية موجهة للمتاجر الأردنية الإلكترونية الناشئة، وبرامج تمويل ضريبي تساعدها على الوصول لرأس المال والتوسع في السوق.
6. تطوير سياسات ضريبية ديناميكية وقابلة للتكيف: تأخذ بعين الاعتبار التجارب الدولية، مثل النموذج الأوروبي في فرض الضرائب على الخدمات الرقمية، لتضمن التوازن بين العدالة والتطور.
إن هذا التوازن بين التحفيز والتنظيم ليس مجرد خيار اقتصادي، بل هو ضرورة سياسية واجتماعية. ففشل السياسات الضريبية في مواكبة الاقتصاد الرقمي قد يؤدي إلى عواقب سلبية، مثل نزيف الاستثمارات، أو تفاقم التفاوتات، أو عرقلة الابتكار.
اخيرا، الاقتصاد الرقمي لم يعد مسألة مستقبلية، بل واقعًا حاضراً يتطلب قرارات جريئة ورؤى مبتكرة. الحكومات التي تُدرك طبيعة هذا الاقتصاد الجديد، وتُسارع إلى بناء أنظمة ضريبية مرنة، شفافة، وعادلة، ستكون هي الأقدر على قيادة المرحلة القادمة من النمو العالمي. فالرهان اليوم لم يعد فقط على من يبتكر التقنية، بل على من يُحسن إدارتها بسياسات ذكية تُنصف الجميع وتُطلق إمكانات المستقبل.

مواضيع قد تهمك