سارة طالب السهيل تكتب : عيد العمال رسالة للإنسانية واحتفاء بالكرامة

الإنسان أصبح في كثير من الأحيان مجرد رقم في تقارير الإنتاج، أو خانة في سجلات الرواتب وسط عالم سريع الخطوات رغم التقدم التكنولوجي. لكن في خضم هذا المشهد، يطلّ علينا عيد العمال ليعيد للإنسان مكانته الأولى، ويذكّرنا أن العمل لم يكن يومًا عبئًا، بل رسالة سامية وقيمة وجودية، وأن العامل هو المحرك الحقيقي للتنمية والبناء.
واحتفاء بالعمل والمستقبل والكرامة يقف العالم دقيقة احترام للذين لا يتوقفون، يبنون ويزرعون ويصنعون وينظفون ويكتبون و...إلخ. لأولئك الذين لا تسلط عليهم الأضواء، لكنهم في الظل يرفعون أوطانا، ويصنعون حياة إنه اليوم الذين يكرم فيه الإنسان والإنسانية من خلال العمل بعيدا عن المنصب واللقب، بل من خلال عرقه وتعبه وقيمته الحقيقية بإنتاجيته.
من الاحتجاج إلى الاحترام
بدأت قصة عيد العمال في أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدًا في عام 1886 في مدينة شيكاغو الأمريكية، وأوروبا حيث خرج آلاف العمال للمطالبة بحق أساسي بسيط وهو تحديد ساعات العمل وهي أن يعمل الإنسان 8 ساعات فقط في اليوم مع ظروف عمل إنسانية بدلا من العمل المتواصل الذي قد يصل إلى 14 أو 16 ساعة، في ظروف قاسية، دون حقوق أو تأمين صحي، أو حتى فترات راحة.
كانت هذه المظاهرات بداية حركة واسعة عُرفت باسم «حركة الثمان ساعات» واجه المتظاهرون قمعًا شديدًا، ووقع قتلى وجرحى في احتجاجات تعرف بـ » أحداث هاي ماركت» التي أصبحت رمزاً لنضال العمال حول العالم.
ومع أن هذه الأحداث كانت مأساوية، إلا أنها غيّرت مجرى التاريخ، فقد أصبحت شرارة لولادة عيد عالمي لتكريم العامل وحقوقه. وفي عام 1889، أعلنت المنظمة الأممية «الدولية الثانية» إن الأول من مايو سيكون يومًا عالميًا للاحتفال بالعمال، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا اليوم مناسبة سنوية في معظم دول العالم تعبر عن الاحترام والدعم لحقوق العمال وكرامتهم.
عيد العمال أكثر من مجرد عطلة
قد يبدو للبعض أن عيد العمال يوم راحة، بل فرصة لإعادة النظر في العلاقة بين أصحاب العمل والعامل، بين الدولة وشعوبها بين المال والأخلاق.
عيد العمال في جوهره تعبير رمزي وإنساني عن مجموعة من القيم منها
- أنه لا طريق للتنمية دون عمل، ولا اقتصاد بلا عمال، ولا مصانع بلا أيدٍ تصنع، ولا مستشفيات دون ممرضين، ولا مدارس بلا معلمين، العمل ليس فقط وسيلة للعيش، بل للمشاركة في بناء الوطن والمجتمع وتنميته.
- عيد العمال هو تذكير دائم بأهمية التوازن بين العمل والراحة، الأجر والإنتاج، الجهد والتقدير، هو صوت ينادي بحقوق العمال في الأجر العادل، والتأمين والأمان في مختلف المجالات، من القطاع الزراعي إلى الصناعي إلى الرقمي. وهو دعوة دائمة لدعم العدالة الاجتماعية.
- العمل هو وسيلة الإنسان لتحقيق ذاته والمساهمة في مجتمعه، وعيد العمال يعيد الاعتبار لكرامة اليد التي تبني، لا اليد التي تتحكم فقط. وتعزيز كرامة الإنسان.
إن الاهتمام بعيد العمال والاحتفاء بهم ليس تكريما فقط، ولا يُعد مجاملة أو ترفًا، بل هو ضرورة تنموية واقتصادية وأخلاقية، واستثمار في المستقبل كلما شعر العامل بالكرامة والتقدير زادت إنتاجيته، وساهم في دفع عجلة التنمية إلى الأمام، فالدول التي تستثمر في الإنسان هي الدول التي تحقق تقدمًا حقيقيًا ومستدامًا.
ينعكس ذلك على التنمية من عدة وجوه.
- العامل الذي يشعر بالعدالة والتقدير يعطي أكثر، ويبدع، ويحرص على الجودة.
- الحقوق الوظيفية تقلل من الاحتقان المجتمعي، وتبني الثقة بين العامل وصاحب العمل.
-من خلال تنظيم سوق العمل، وتوفير وظائف عادلة، والتشجيع على المشاريع الصغيرة، يمكن للمجتمع أن يحد من الفقر والبطالة.
- عندما يرى الأطفال أن آباءهم وأمهاتهم يُكرَّمون، ويُحترمون لأجل عملهم، تتولد لديهم ثقافة احترام العمل، أيًا كان نوعه، وتتشكل فيهم قيم الاجتهاد والانتماء. مما يوجد في المستقبل جيل واعٍ وملتزم.
تحتفل العديد من الدول بعيد العمال، لكن التحديات في العالم العربي لا تزال كبيرة. فهناك تفاوت في تطبيق قوانين العمل، وضعف في التأمينات الاجتماعية، إضافة إلى تفشي البطالة بين الشباب، وظروف عمل صعبة للعمالة الوافدة والمحلية على حد سواء.
لكن الآمال لا تغيب، فهناك جهود حثيثة لتحسين بيئة العمل، وزيادة فرص التشغيل، ودعم المشاريع الصغيرة، خاصة مع ظهور الاقتصاد الرقمي وفرص العمل عن بعد، مما قد يشكل نقلة نوعية إذا ما وُجهت بشكل عادل ومنصف.
كما أن عيد العمال فرصة لنعمل معا على تغيير نمط التفكير لدى الناس إزاء الوظائف خاصة في ظل تزايد البطالة، وفي ذات الوقت احتياج الوطن للعمال في شتى المجالات وخاصة الأعمال الحرفية والوظائف التقنية ووظائف أخرى مثل الكهرباء والسباكة وعمال الوطن والبناء وغيرها وهي وظائف هامة ومحترمة ومقدرة في البلدان المتقدمة التي تعرف قيمة هذه الأعمال، وتقدر مبدعيها الذين لا غنى عنهم، ولا تستمر الحياة بدونهم بالشكل الصحيح.
في النهاية أن عيد العمال عيد للإنسان أولًا، الإنسان هو القيمة الأسمى، وأن العمل هو الكرامة والتنمية. عيد العمال لا يحتفل به فقط بالذين يملكون وظائف، بل نذكّر بحق الملايين الذين يبحثون عن فرصة عمل كريمة، وننادي بحقوق العاملات في المنازل، والعمال الموسميين، والذين لا يملكون صوتًا يدافع عنهم.
عيد العمال هو صوت يُسمع من كل يدٍ تُمسك بأداة، من كل قلبٍ يعمل بصدق، من كل روحٍ لم تملّ من السعي رغم التعب. لنرفع القبعة لكل يد عاملة، ولكل ظهر انحني من أجل بناء الوطن، المجتمعات لا تبني بالشعارات، بل بالعامل فهو الذي ينجز وينتج ويخدم وطنه. إنه يوم الإنسان... الذي يجعل من العمل بابًا للكرامة، لا وسيلة للعبودية.
كل عام وعمال العالم بخير... أنتم عماد الحضارات، وأنتم نبض التنمية الحقيقي. ــ الراي