رمزي الغزوي : الحقيقة التي خنقها الهتاف

نحن لا نحتاج إلى الحقيقة بقدر حاجتنا إلى بطل. حتى لو كان من ورق، أو من وهمٍ محلَّى. وحتى لو لم ينتصر في معركة واحدة، يكفينا أن يرفع عقيرته، فتصفق الجماهير وتنهمر الدموع، ويُنسى العقل في الركن البعيد الهادي.
ولهذا، لم يُنشر تسجيل جمال عبد الناصر إلا بعد أكثر من نصف قرن، أو بالأحرى لم نلتفت إليه إلا بعد كل هذا الزمن الموجع. سبعة عشر دقيقة كانت كافية لنسف سردية كاملة، وفتح ثقب في جدار بني على خطب دغدغة المشاعر، والحكِّ على الجرب، كما يقول المثل الشعبي. عبد الناصر الذي في التسجيل، ليس الرجل الذي عرفناه. الرجل في حقيقته كان رجلين اثنين. هنا هو لا يتكلم عن البطولة، بل عن الخوف. لا يعد بالتحرير، بل يطلب أن يُترك وشأنه. يقولها صريحة: « اللي عايز يحارب يتفضل». لا مواربة، ولا رقص على الحبال.
كان يعرف أن كلماته ستهدم مجده، وتغضب شارعا ربّاه على التصفيق للحرب، والفرح بالهزيمة إن جاءت مع نشيد ذي نفس عال، أو مع خطاب مزلزل طراز أرض جو. لكنه، في لحظة صدق نادرة، اختار قول الحقيقة. ليس على شرفة، بل في غرفة مع شاب متهور اسمه معمر القذافي.
هذه ليست قصة عبد الناصر وحده. بل قصة أمة تدمن الإنكار، وترفض أن ترى الواقع واقعاً، وتستبدله ببطولية معلبة. كل جيل يظهر فيه «بطل» ليعيد إنتاج الخيبة، لكنه يُقدّم لنا على طبق من ذهب، وتُصنع له الأهازيج والبيارق والنياشين، وتُرسم لأجله الجداريات وتطلق لعينه الهتافات الحامية حدّ البركنة. نتمسك به، لا لأنه ينجح أو يفلح، بل لأنه يخطب أكثر. أو بالأحرى لأنه يستغفلنا أكثر وأعمق.
لا يُبنى الرأي العام في بلادنا على الوقائع، بل يُهندَس بالرغبات والأماني ومراودة السراب. نريد من يرفع شعار «سنرميهم في البحر»، ولو كنا بلا بحر. نريد من يعِدنا بتحرير الأقصى، حتى ولو لم يعد لدينا خنادق وبنادق، ولا مقاعد دراسة أو حياة من أصله. نغفر الهزيمة، لكن لا نغفر الصمت. نغضب ممن يقول لنا إننا ضعفاء، مع أننا نعرف أنه على حق.
تسجيل عبد الناصر جرس إنذار. يكشف كيف أن الزعيم الذي بنى مجده على شعارات براقة، مات محاولا التراجع عنها. قال الحقيقة ولم يسمعه أحد. واليوم، يعيد التاريخ مهزلته. فثمة أبطال جدد، وشعارات مجترة، ولكن الهاوية بقيت هي نفسها.
فهل نتعلم؟ ونكف عن التمسك بالورق بدل العقل؟ هل نسمح لضميرنا أن يسبق حناجرنا لمرة واحدة؟ يبدو السؤال موجعا، لكن لا مهرب منه. فالكذبة لم تعد تتسع لكل هذا الدم. ــ الدستور