بيان صبحة : «مناخ الصراع: عندما تتحول الكوارث إلى جبهات خفية»

في عام 2024 وحده، تسببت الكوارث المناخية في تهجير أكثر من 43 مليون شخص حول العالم، وفقًا لتقارير مركز رصد النزوح الداخلي (IDMC)، ومع حلول عام 2025 لا تزال آثار هذه الأرقام تتردد في المشهد الإقليمي والعالمي، بينما شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ارتفاعًا بنسبة 37% في معدلات الهجرة القسرية المرتبطة بالمناخ مقارنة بالعام السابق؛ هذه الأرقام لم تعد مجرد مؤشرات بيئية مقلقة، بل أصبحت ملامح واضحة لتحول المناخ إلى محرّك مركزي للنزاعات الحديثة في منطقة كانت أصلًا على حافة الصراعات المزمنة، لم يعد الصراع في الشرق الأوسط مرتبطًا فقط بالحدود والنفط والسياسة؛ اليوم، يصعد المناخ باعتباره سلاحًا جديدًا يُعيد تشكيل خرائط القوة والهشاشة، ويهدد بتغيير طبيعة المواجهات من العمق.
مع ازدياد درجات الحرارة بمعدل أسرع بنسبة 1.5 مرة مقارنة بالمتوسط العالمي، وفقا لتقارير البنك الدولي، أصبحت ندرة المياه أكثر حدة، وتراجع الغطاء الأخضر بشكل مقلق، مما دفع بعض الدول إلى اتخاذ خطوات استثنائية لضمان بقاء مواردها؛ هذه الديناميات الجديدة أفرزت موجات نزوح داخلي وإقليمي، ما زاد من هشاشة المدن المكتظة أصلا، وأشعل توترات مجتمعية جديدة كان المناخ شرارتها الخفية؛ في العراق مثلا، تفاقمت النزاعات المحلية مع انخفاض مناسيب نهري دجلة والفرات بنسبة تصل إلى 50% عن معدلاتها الطبيعية، في حين اضطرت بعض التجمعات السكانية إلى هجر قراها التاريخية بحثًا عن مصادر مياه بديلة، مما أدّى إلى إعادة رسم الخريطة السكانية بصورة لم تعهدها البلاد منذ عقود.
الأمر لم يتوقف عند المياه أو الزراعة؛ فالتغير المناخي فتح جبهة جديدة أقل وضوحا لكنها لا تقل خطورة: حروب التحكم في الموارد الحيوية للطاقة النظيفة؛ في ظل السباق العالمي على المعادن النادرة مثل الليثيوم والكوبالت، تحوّل البحث عن مصادر جديدة إلى عامل تنافس دولي حاد، تتشابك فيه المصالح البيئية مع الحسابات الاستراتيجية؛ وتشير توقعات وكالة الطاقة الدولية إلى أن الطلب على المعادن اللازمة للانتقال الطاقي سيزداد بنحو 400% بحلول 2040، مما يجعل مناطق مثل الصحراء الكبرى والأردن - بما تمتلكه من احتياطات واعدة - ساحة تنافس إقليمي مبكر يمكن أن يتحول إلى صراع مكتوم في أية لحظة؛ أما الساحة الإلكترونية، فقد دخلت رسميًا في حسابات النزاعات المناخية، مع اعتماد دول الخليج مثلا على محطات تحلية المياه الكبرى لتأمين احتياجاتها، زادت الهجمات السيبرانية التي تستهدف هذه البنية التحتية الحيوية بنسبة 23% في آخر عامين حسب تقارير الأمن السيبراني لمنظمة ENISA الأوروبية، تخريب شبكات الكهرباء المرتبطة بمصادر الطاقة النظيفة أصبح كذلك من استراتيجيات حروب الظل، ما يعني أن المناخ لم يعد فقط يحرك الجيوش على الأرض، بل يُشعل أيضًا معارك غير مرئية خلف الشاشات.
وسط هذا المشهد المترامي الأطراف، بدأت بعض دول الشرق الأوسط تتحرك بذكاء لإعادة تعريف أمنها القومي بما يتلاءم مع متغيرات العصر؛ الأردن مثلا عزز استثماراته في مشاريع الطاقة الشمسية والمياه العادمة المعالجة، بينما أطلقت الإمارات مشاريع ضخمة للحياد الكربوني، وسعت السعودية إلى تسريع مبادرة «الشرق الأوسط الأخضر» الهادفة لزراعة 50 مليار شجرة في المنطقة. لكنها رغم طموحها، تبقى خطوات أولية في مواجهة موجة تهدد بابتلاع استقرار الإقليم ما لم تقرن بمزيد من التنسيق الإقليمي الحقيقي.
في زمن تتسارع فيه الكوارث المناخية بوتيرة غير مسبوقة، يبدو أن من لا يُدرج المناخ في معادلة أمنه الوطني سيجد نفسه حتما يطارد أزمات لا يستطيع السيطرة عليها؛ لم يعد السؤال ما إذا كان المناخ سيشعل صراعات جديدة، بل كيف ستتغير طبيعة النزاعات بفعل ضرباته الخفية، وما إذا كانت المنطقة ستتمكن من التحول من ساحة اشتباك إلى نموذج عالمي للحلول، قبل أن تحترق الأرض تحت أقدام الجميع.