أ. د. ليث كمال نصراوين : حكمة الدولة الأردنية في مواجهة الإرهاب

لا تزال حالة الغضب الشديد تسيطر على الرأي العام الأردني بعد أن تمكنت دائرة المخابرات العامة وباقي الأجهزة الأمنية من الكشف عن واحدة من أخطر المخططات الإرهابية التي كانت تسعى إلى زعزعة أمن الأردن واستقراره. فما يميز هذه الحادثة عن سابقاتها طبيعة الأفعال الجرمية غير المسبوقة التي خطط لها المتهمون وباشروا بتنفيذها، إلا أن يقظة الأجهزة الأمنية والاستخبارية كانت لهم بالمرصاد، وتعاملت مع هذه الأحداث الإرهابية وفق أحكام القانون.
فأبرز الملاحظات القانونية على هذه العملية الأمنية الدقيقة يمكن استخلاصها من بيان دائرة المخابرات العامة الذي أفاد بأن الدائرة كانت تتابع هذه المحاولات التخريبية منذ عام 2021، حيث كانت خلال السنوات الماضية تقوم بجمع كافة المعلومات والبيانات الخاصة بالقضية وشخوصها لكي تقوم بإحالتهم إلى القضاء الأردني.
إن هذه الهالة من السرية المطلقة التي أحاطت بها دائرة المخابرات العامة مجريات الأحداث يعد إجراء قانونيا سليما ومتوافقا مع النصوص الناظمة لعملها. فالمادة (8) من قانون المخابرات العامة رقم (24) لسنة 1964 تنص صراحة على أن تقوم دائرة المخابرات العامة بالمهام والعمليات الاستخبارية في سبيل أمن المملكة الأردنية الهاشمية وسلامتها وبالأعمال والمهام التي يكلفها بها رئيس الوزراء بأوامر خطية، وتحمل هذه الأعمال والمهام طابع السرية.
فخلال السنوات الماضية التي كانت فيها دائرة المخابرات العامة منشغلة بملاحقة الإرهابيين، شهد الأردن ظرفا استثنائيا يتمثل بانتشار جائحة كورونا وتفعيل العمل بقانون الدفاع خلال الفترة بين عامي 2020 وحتى 2023، حيث تكاثفت الجهود الوطنية على كافة المستويات للتعامل مع هذا الحدث الوطني غير المسبوق، وذلك من أجل الحفاظ على الأمن الداخلي والتعاطي مع التبعات الاقتصادية والاجتماعية للحظر الذي تقرر فرضه على الأفراد والمنشآت، وتنفيذ أوامر الدفاع بهدف السيطرة على ذلك الوباء العالمي.
ورغم ذلك، لم يشعر الأردنيون الذين لازموا بيوتهم لأسابيع بأية تهديدات أو أوضاع أمنية غير اعتيادية خلال تلك الفترة، والسبب في ذلك يعود إلى حنكة واحترافية دائرة المخابرات العامة التي تعاطت مع هذه التهديدات الأمنية خلال تلك الفترة بسرية تامة.
كما شهد الأردن خلال الفترة الزمنية السابقة توجيهات ملكية بالبدء بعملية التحديث السياسي في عام 2021، حيث تشكلت لجنة ملكية لهذه الغاية طاف أعضاؤها محافظات الأردن ومدنها وقراها دون أن يشعر أي منهم بمخاوف أمنية، ودون أن يتم ارسال أي تحذيرات لهم من وجود أخطار جسيمة على الأمن الوطني.
وأصرت الدولة الأردنية خلال الفترة التي كان فيها فرسان الحق يتعاطون مع زمرة الإرهابيين على أن تنفذ استحقاقات دستورية وقانونية في مواعيدها المقررة تشريعيا، فتم إجراء انتخابات مجالس المحافظات والبلديات في عام 2022، والانتخابات النيابية لاختيار مجلس النواب العشرين في عام 2024.
وقد كان الحرص من صاحب القرار على أن تكون الانتخابات النيابية نزيهة وحيادية إلى أقصى الحدود، فجرى توفير البيئة الديمقراطية لجميع الأحزاب السياسية بأن تترشح وتتنافس على مقاعد مجلس النواب، وفي مقدمتهم حزب جبهة العمل الإسلامي، الذراع السياسية لجماعة الأخوان المسلمين، التي اعترف الإرهابيون بالانتساب إليها والعضوية فيها منذ سنوات طوال. فتجلت الشفافية والموضوعية في نتائج هذه الانتخابات التي فاز بها التيار الإسلامي بعدد غير مسبوق من المقاعد على مستوى الدائرة الانتخابية العامة والدوائر المحلية.
إن قاعدة «المتهم بريء حتى تثبت إدانته» قد طبقتها الدولة الأردنية بحرفية عالية، ولم تحاكم الأحزاب الإسلامية عُرفيا على ما اقترفه أعضاؤها من شباب أردني تم التغرير بهم وطمس هويتهم وانتمائهم الوطني تحت ذرائع متعددة لا يمكن أن تكون على حساب أمن الوطن واستقراره مهما كانت غاياتها وأهدافها. فكانت نتائج الانتخابات النيابية التي أوصلت عددا كبيرا من نواب التيارات الإسلامية، والحرية التي يتمتع بها هؤلاء المشرعون هي الدليل القاطع على أن الدولة الأردنية لا تخاصم أحزابها ومؤسساتها، ولا تتعامل معهم إلا وفق أحكام القانون.
كما يتجلى احترام رجال المخابرات العامة لمبدأ المشروعية وسلطان القانون في التسجيلات الشخصية للإرهابيين الذين خططوا للمساس بأمن الوطن وأبنائه، فقد ظهروا بفيديوهات حديثة شاهدها العالم برمته وكانت تبدو على محياهم علامات الخزي والعار دون أي مظهر من مظاهر التعذيب أو سوء المعاملة. فحالتهم البدنية والصحية تؤكد أن رجال التحقيق من فرسان الحق قد احترموا آدميتهم وانسانيتهم، ولم يخضعوهم لأي إجراءات تعسفية لنزع الاقرارات منهم.
وحتى الاعترافات التي أدلى بها هؤلاء المجرمون طوعا واختيارا، فلن يكون لها حجية مطلقة أمام المحكمة المختصة؛ ذلك أن القانون الأردني يجيز لهم ابتداء الرجوع عنها ويشترط لغايات الأخذ بها إجراءات خاصة. فالمادة (159) من قانون أصول المحاكمات الجزائية تنص على أن الإفادة التي يؤديها المتهم أو الظنين أو المشتكى عليه في غير حضور المدعي العام ويعترف بها بارتكابه جرما، تُقبل فقط إذا قدمت النيابة البينة على الظروف التي أديت فيها واقتنعت المحكمة بأن المتهم أداها طوعا.
إن حكمة الدولة الأردنية في التعاطي مع الأحداث الإرهابية الأخيرة تعطي اثباتا جديدا بأنها دولة «رعوية» ترعى مصالح أبنائها ومؤسساتها الذين يضلون عن الصراط المستقيم ولا تنتقم من أحد، فهي دولة قانون تحرص على تطبيق تشريعاتها الوطنية على الجميع دون استثناء.
أستاذ القانون الدستوري وعميد كلية الحقوق في جامعة الزيتونة
laith@lawyer.com