صالح الشرّاب العبادي : العدو الخفي والظاهر: قراءة مختصرة في مفككات القوة الوطنية

في ميدان العلم العسكري، كما في ميدان الاستخبارات، تُرسم دوائر التهديد بدقة علمية، تنطلق من مركز الفعل نحو أطراف التأثير. فالدائرة الأقرب هي دائرة التأثير المباشر، حيث يتواجد الخطر الملموس والمباشر على القوات أو الكيان المستهدف، تليها دائرة التهديد المتوسط، ثم دائرة التهديد غير المباشر، وصولاً إلى دائرة الاهتمام، وانتهاءً بالدائرة الأوسع التي تمثل مجال الاهتمام غير المباشر. في كل دائرة من هذه الدوائر، تُبنى الاستراتيجيات، وتُجمع المعلومات، وتُرصد التحركات، ويُجهّز الرد، بحسب نوع التهديد وشكله ومصدره.
لكن التهديد في عالم الصراع لا يقتصر على الرصاص والبارود، ولا على الجيوش والكتائب، بل يمتد إلى ما هو أعمق وأكثر خفاءً.
في علم القيادة، سواء العسكرية أو الإدارية، يبرز التحدي الأكبر في القدرة على التمييز بين العدو الظاهر والعدو الخفي. فالأول يُرى ويُعرف، تحكمه مواجهات واضحة وأهداف معلنة ، أما الثاني، فهو الذي يتسلل بين الصفوف، يبتسم ويصافح، يتحدث بلغة الولاء، لكنه يُخفي خلف تلك الأقنعة نوايا مبيتة وخططاً هدامة.
تكمن خطورة العدو الخفي في قدرته على الإيحاء بأنه جزء من الفريق، بأنه ضمن المنظومة، بل وأحياناً في موقع القرار، ليقوم لا بمواجهة مباشرة، بل بتقويض الجهد الجماعي من الداخل، وتحطيم الإرادة وتفكيك التلاحم. إنه لا يرفع سلاحاً، بل يرفع قرارات قد تبدو في ظاهرها إصلاحية، لكنها في جوهرها تحمل بذور الفتنة والانقسام والضعف. لا يهاجم من خارج السور، بل يفتح أبوابه من الداخل، بحسن نية ظاهر، وخبث استراتيجي خفي.
وفي عالم التغيرات المتسارعة، إقليمياً ودولياً، حين تتزاحم التحديات وتتشابك الأزمات، يصبح من الضرورة القصوى تحصين الجبهة الداخلية، لا فقط ضد العدو الظاهر، بل ضد ذلك الذي يظن نفسه مصلحاً، بينما هو يهدم بلا وعي، أو بأسوأ الأحوال، بدهاء مقصود. فالأخطر من العدو المعلن، هو ذاك الذي يتخذ قراراً يظنه خطوة للأمام، بينما يزرع من خلاله أسباب التراجع والانقسام والإحباط.
التاريخ مليء بالشواهد على أن الهزائم الكبرى لم تكن دوماً نتيجة تفوق العدو الظاهر، بل كثيراً ما كانت بفعل الانقسام الداخلي، وسوء القرار، وخيانة اللحظة الفارقة، إن من يعتقد أن بإمكانه اتخاذ قرارات منفردة تُشعل الرأي العام، وتُثير الانقسامات، وتشتت الجهود في لحظة احتشاد وطني لمواجهة خطر خارجي، هو في الحقيقة يفتك بالوحدة الوطنية، ويضرب أساس القوة النفسية والمعنوية، ويعيد تشكيل الجبهة الداخلية على أسس الضعف لا القوة، والتنافر لا التكامل.
ليست كل معركة تُخاض بالسلاح، وليست كل نكسة تأتي من العدو، أحياناً، تكون الخسارة بفعل قرار واحد في توقيت خاطئ، أو كلمة واحدة في لحظة حرجة، لذلك، يصبح الواجب الوطني والأخلاقي أن تُضبط القرارات، وأن يُراجع أصحاب القرار أنفسهم عند كل مفترق حساس، لأن ما يُبنى عبر سنوات من الثقة والتلاحم والجهد الجمعي، قد يُهدم بلحظة ارتجال أو رعونة.
في النهاية، لا بد من القول إن الجبهة الداخلية ليست ساحة للتجريب، ولا ميداناً للقرارات المنفصلة عن السياق العام، إنها خط الدفاع الأول، وإذا ما تم اختراقها، سقطت كل الخطوط الأخرى. والعدو الخفي، مهما ظن أنه ينفع، فإن ضرره أفدح، لأنه يفعل فعله باسم الإصلاح والنية الطيبة، بينما يقوض ما لا يمكن تعويضه بسهولة: الثقة.