الأخبار

د. محمد العرب : رجل بلا خصوم ظلّ بلا جسد

د. محمد العرب : رجل بلا خصوم ظلّ بلا جسد
أخبارنا :  

حين وقف سقراط في محاكمته الشهيرة أمام هيئة القضاء الأثيني، لم يكن متهماً بسرقة أو خيانة، بل بالتفكير ، كانت تهمته أنه أفسد عقول الشباب، وأنه تساءل أكثر مما ينبغي، وأنه لم يترك الآلهة وشأنها !
كان الرجل الستيني حينها يعلم تماماً أن ما يُحاكم عليه ليس سوى ثمن لرجل قرر ألا يكون بلا خصوم ، لو عاش سقراط بصمت، متجنباً ثورة الأسئلة، ملتزماً بالحكمة المعلّبة التي ترضي الجميع، لما تذكّره أحد، ولربما مات شيخاً في زاوية منعزلة من أثينا دون أن تعرف البشرية اسمه ولكنه اختار أن يكون موجوداً حقاً ، فدفع الثمن: السمّ، والموت، والخلود.
في فلسفة الحياة، من يسعى لعدم إغضاب أحد، يُرضي الجميع ظاهرياً ، لكنه يُفرغ نفسه من المعنى ، في المجتمعات التي تقدّس الاتزان الزائف، يُنظر إلى الرجل الذي لا يعاديه أحد باعتباره (ناجحاً) ، بينما الواقع يشير إلى العكس: أنه لم يغامر، لم يتمرد، لم يخطئ ولم يصوّب، بل عاش في مساحة رمادية لا لون لها ولا رائحة. والذين يعيشون في الظلال، لا يصنعون ظلًا !
هم في نهاية المطاف مجرّد انعكاسات باهتة لما يطلبه الآخرون ، القيمة الإنسانية لا تُقاس بعدد المصافحات، بل بعمق المواقف والمواقف، حين تكون حقيقية، لا بد أن تخلق حولها صدى وذلك الصدى يزعج، يشقّ الاستقرار الوهمي، ويكشف الوجوه المتخفية ، لذلك فإن من يعمل بصدق، ومن يكافح دون مواربة، يجد نفسه في موقع الاحتكاك المستمر مع ثوابت الآخرين ، لا لأن هدفه الصراع، بل لأن فعله يُجبر الصامتين على التبرير، والمترددين على الحسم، والمنافقين على التراجع.
الرجل الذي يصنع أثراً في الواقع، يضع نفسه تلقائياً في مواجهة مع أصحاب المصالح، مع أرباب الجمود، ومع من يفضلون أن يبقى كل شيء على حاله. لذا فإن وجود خصوم ليس علامة على الفشل، بل على الحيوية. الخصومة هنا ليست عداوة شخصية، بل اختبار لفكرة. أي فكرة تصمد في وجه الهجوم، تصبح فكرة ذات قيمة أما من لا تُهاجمه فكرة، فهو لم يطرح شيئاً يستحق الانتباه أصلاً
وفي العمل كما في الفكر، لا يتحقق الإنجاز الحقيقي إلا في مناخ متوتر. النجاح الذي لا يصنع ضجيجاً ليس إلا حركة ضمن السرب ، لكن من يقرر الطيران خارج السرب، هو من يصنع أثراً ولو بصوت جناح واحد ، المجددون دائماً موضع شك والمجتهدون غالباً ما يُساء فهمهم والتاريخ لا يحتفي بالمجاملين، بل بأولئك الذين قرروا أن يقفوا في وجه التيار، ويُعبّروا عن ذواتهم، مهما كلّفهم ذلك من أعداء أو خسارات مؤقتة.
الخصوم ليسوا دائماً أعداء ، أحياناً هم مرايا تعكس مقدار ما أثارته حركتك في الركود العام وهم مقياسك. هم الدليل على أنك كنت مؤثراً بما يكفي لتُثير الاعتراض. ولذلك فإن الرجل الذي لا خصوم له، كمن مرّ في الزمان بلا قلق، بلا صوت، بلا مواجهة، كأن لم يكن. والوجود الحقيقي لا يقبل بهذا النوع من التخفّي.
حين نراقب سِيَر الكبار الذين غيّروا مجرى التاريخ أو الفنون أو العلم، نجد حولهم دوماً حلقات من الخصوم، منتقدين، مهاجمين، مشككين. بل إن بعضهم لم يُفهم في حياته، مثل فان جوخ الذي مات دون أن يبيع لوحة واحدة، أو نيتشه الذي اتُّهم بالجنون، أو جاليليو الذي حوكم لأنه قال إن الأرض تدور. كانت خصوماتهم دليلاً على سبقهم لعصرهم، وعلى صلابة مواقفهم. لم يبحثوا عن الصدام، لكنهم لم يهربوا منه حين جاءهم بسبب قناعاتهم.
الرجل الذي يسير على درب بلا مطبّات، غالباً لم يخرج من بيته وحين تختار أن تصنع مسارك بنفسك، فإنك تعلن بداية التحدي. لأن أي فكرة جديدة، أو نهج غير تقليدي، يشكل تهديداً مباشراً لنظام قائم والعمل الجاد الصادق يضعك وجهاً لوجه مع تراكمات من الكسل، والتحايل، والخوف. والمجتمع، بطبيعته، لا يرحب بمن يعري عوراته الفكرية أو الأخلاقية، حتى ولو بالصمت. لذا فإنك، بصدقك فقط، قد تُولد خصومة. لكن ليست كل خصومة دلالة قيمة، بل فقط تلك التي تأتي نتيجة موقف أخلاقي أو فكري أو مهني اتُخذ بإصرار. رجل تصنعه خصومته مع الزيف، وليس مع الناس. رجل تكون عداوته مع الجمود لا مع المختلف. هذا هو من يستحق أن يُقال عنه إنه كان شيئاً وإن خصومه وإن حاولوا إنكاره، فقد منحوه مكاناً في السرد.
رجل بلا خصوم، في عالم مليء بالزيف، هو إمّا متواطئ، أو غير موجود فعلياً وهو ظلّ بلا جسد، ومرور بلا تأثير. أما من عاش وفي قلبه فكرة، وعلى كتفه رسالة، وفي صدره صوت لا يقبل الخفوت فعداواته أوسمة، وخصومه شواهد حقيقية على أنه كان حياً..! ــ الدستور

مواضيع قد تهمك