الأخبار

محمد زهير الكساسبة : حين يكون الصوت عاقلاً... الأردن نموذج في دعم غزة

محمد زهير الكساسبة : حين يكون الصوت عاقلاً... الأردن نموذج في دعم غزة
أخبارنا :  

منذ اندلاع العدوان الغاشم على قطاع غزة، تصدّر الأردن، قيادةً وشعباً، واجهة المواقف العربية الداعمة للأشقاء هناك.

مواقف لم تكن بحاجة لصخب أو شعارات، بل ظهرت على شكل مساعدات طبية عاجلة، مستشفيات ميدانية، ومواقف سياسية حاسمة عبّر عنها جلالة الملك عبدالله الثاني في كافة المحافل الدولية.

تجلّت الحكمة الأردنية في تجاوز ردات الفعل العاطفية السريعة إلى تحركات فعلية ملموسة تهدف إلى تحقيق تغيير حقيقي في الميدان، بدايةً من العمل على تأمين المساعدات العاجلة وصولاً إلى فتح قنوات دبلوماسية للتواصل مع أطراف فاعلة على الساحة الدولية.

في ظل هذا الموقف السياسي الرشيد، يعكس الأردن سياسة قائمة على الفعل المؤثر، لا على الاستعراضات الإعلامية. كان الأردن يدرك تمامًا حجم التحديات التي تواجهه، خاصة في ظل محدودية موارده وظروفه الاقتصادية المعقدة، لكنه لم يتوانَ يومًا عن احتضان ودعم الأشقاء العرب.

من فلسطين إلى العراق، ومن سوريا إلى لبنان، دأب الأردن على تقديم العون والمساعدة، متحملًا عبئا كبيرًا في ظل تزايد أعداد اللاجئين والتحديات الاقتصادية. هذا الموقف النبيل يثبت أن الأردن، رغم إمكانياته المحدودة، لا يمكنه إلا أن يكون السند الأقوى لأشقائه العرب في وقت الأزمات.

إحدى المزايا التي جعلت من السياسة الأردنية نموذجًا يُحتذى في المنطقة، هي الحنكة السياسية التي تميز بها الأردن في إدارة المواقف. فقد حرص جلالة الملك على تعزيز الدور الدبلوماسي للمملكة، معتمدًا على علاقات تاريخية قوية مع الدول الأوروبية الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا.

وبينما كان المجتمع الدولي يشهد انقسامًا حادًا حول الموقف من العدوان على غزة، لم يتوانَ جلالة الملك عن اتخاذ خطوة شجاعة في جولة دبلوماسية إلى عواصم أوروبية فاعلة، حاملًا معه رسالة واضحة: أن الموقف الأردني ثابت، وأن الدعم لفلسطين يجب أن يتجاوز الإدانة إلى التحرك الفعلي.

ورغم أن المشهد الدولي بدا واضح الانحياز، وأن الجبهة الأوروبية-الأمريكية تشكّلت بسرعة لدعم الاحتلال في عدوانه على غزة، إلا أن الأردن لم يقف موقف المتفرج.

فبحنكته السياسية العميقة، أدرك جلالة الملك حجم الفجوة بين مواقف أوروبا والولايات المتحدة، لكنه آمن بأن الصوت الصادق يجب أن يُقال مهما كان اتجاه الريح.

لذلك، لم يتردد الملك في الانطلاق بجولة أوروبية شملت عواصم فاعلة، حاملاً معه رسالة واضحة، وصوتًا عربيًا نزيهًا، يدعو إلى وقف العدوان، وفتح ممرات إنسانية عاجلة، والاعتراف بحق الفلسطينيين في الحياة والكرامة.

كان ذلك موقفًا شجاعًا، يعكس سياسة خارجية قائمة على المبادرة لا الانفعال، وعلى التأثير لا التبعية.

في هذا السياق، لا يمكن أن نغفل الدور الاقتصادي الذي لعبته المملكة في تقديم المساعدات الإنسانية. ففي الوقت الذي يواجه فيه الأردن تحديات اقتصادية على مستوى الداخل، من ارتفاع معدلات البطالة وارتفاع الأسعار، فإنه لم يتردد في تخصيص جزء من موارده لدعم الأشقاء في غزة.

إن هذا الموقف يعكس عمق العلاقات بين الشعبين الأردني والفلسطيني، حيث شكلت المساعدات الإنسانية جزءًا من تكامل الشعبين في مواجهة التحديات المشتركة.

وفي الوقت الذي يعيش فيه الإقليم اضطرابات وموجات غضب شعبية، استطاع الأردن أن يحافظ على أمنه واستقراره، دون أن يتخلى لحظة عن دوره الإنساني والسياسي تجاه فلسطين.

فالأمن والأمان اللذان ننعم بهما اليوم، لم يأتيا صدفة، بل نتيجة وعي شعبي، وجهد مؤسسي، وقيادة حكيمة توازن بين الموقف والمصلحة، بين الانفعال والعقل.

الأردن، من خلال قيادته الحكيمة، نجح في الحفاظ على استقراره الداخلي رغم التحديات المتزايدة، مما جعله نموذجًا في المنطقة لأمن واستقرار لم يتزعزع.

إن التظاهرات قد تكون سلاحًا للتعبير عن الغضب، ولكن يجب أن نكون حذرين في استخدام هذا السلاح.

نحن بحاجة إلى أن نقف وندعم الأجهزة الأمنية التي هي حامي الوطن. لا يجب أن نعتدي عليها، بل يجب أن نكون سندًا لها في ظل الظروف الصعبة التي تمر بها المملكة. فالاستقرار والأمن هما أساس أي تحرك وطني حقيقي، ولذا لا يمكننا بأي حال من الأحوال السماح بإضعاف المؤسسة الأمنية التي تحمل على عاتقها مسؤولية حماية الوطن والمواطن.

في ظل هذا الحراك الوازن، يخرج البعض للتظاهر، ظنًا منهم أن الصوت المرتفع هو السبيل الوحيد للانتصار.

وهنا لا بد من التوضيح: التظاهر من أجل غزة نابع من شعور نبيل، لكنه قد يكون في غير وقته، أو بأسلوبٍ قد يُشتّت الجهد ولا يخدمه.

فالشارع الأردني اليوم مدعوّ للوحدة، للوعي، وللالتفاف حول قيادة تُحسن التصرّف حين يعلو الضجيج، وتُحسن الفعل حين يكثر الكلام.

إن رفع الشعارات قد يكون ذا تأثير محدود في مواجهة قوى دولية متماسكة، ولكن الفعل الحقيقي يأتي من دعم السياسات الأردنية الفاعلة التي تهدف إلى إحداث تغيير حقيقي.

لا نحتاج اليوم إلى رفع الشعارات، بل إلى رفع الوعي.

ولا نحتاج إلى التشكيك، بل إلى الوقوف صفًا واحدًا خلف وطنٍ كان وما زال الأصدق في مواقفه تجاه فلسطين.

والأهم من ذلك، أن نعي أهمية الدور الذي يقوم به الأردن في تعزيز أمنه الداخلي، وصياغة سياسته الخارجية بحيث تظل قادرًا على إحداث التأثير المطلوب في المشهد الدولي.

، إن التظاهر الحقيقي يبدأ من داخلنا... حين نختار أن نكون على قدر المرحلة، وأن نكون امتدادًا لحكمة دولتنا، لا صدى لمزاج الشارع العابر.

فغزة بحاجة للدعم... والأردن بحاجة للحفاظ على أمنه واستقراره ليبقى السند الأقوى والأوفى في زمنٍ قلّ فيه الوفاء.

ــ الراي

مواضيع قد تهمك