أحمد الفرحان أبو هزيم يكتب : الإعلام الصهيوني حين يغيّر الحقائق «جِمّ وأنا»

لا شك ان الإعلام من ادوات المعركة السياسية الفاعلة، بل ان الإعلام هو نشاط سياسي بامتياز، وعلاوة على كونه وسيلة، إلا ان الإعلام يصبح في مرحلة ما هو المعركة وهو الحرب نفسها.
في هذه المقالة اريد ان انقل بعضا من تجربتي، والتي تظهر إلى اي مدى ذهبت الدعاية الصهيونية في تضليل الجمهور الأميركي وتغيير الحقائق بما يخص المجتمعات العربية، كما ارجو ان تكون دعوة لحضور اكثر للإعلام العربي في الفضاء الإعلامي الأميركي، وعدم ترك الحبل على الغارب للدعاية الصهيونية. ومما يثير الانتباه، ان هذه التجربة لم تحصل في جاهلية او ظلمات القرون الوسطى، بل حصلت في هذا العصر حيث الحضارة والعالم اشبه بالمدينة الواحدة.
في عام ١٩٧٢ كنت في دورة في احدى الولايات الأميركية، وبحكم التعامل اليومي تكونت لي صداقات ومعارف، وقد كان جُل من حولي لطفاء ودودين، وأكثر ما يستوقفك منهم صدقهم وصراحتهم وحرصهم على عدم التعدي على شخصيتك فهي بنظرهم شبه مقدّسة، وحرصهم على سماع واحترام رأيك حتى لو لم يأخذوا به، وعدم تدخلهم بخصوصيتك فهي شأنك في بلد شعاره الحريات، وان طلبت المساعدة لن يتوانوا عن تقديمها بوسائلهم المتاحة ولكن عليك المبادرة لطلب هذه المساعدة أولاً، كما لا أنسى ان من كانوا حولي اجتماعيون لا يتركونك بحالك إلا إذا طلبت، ويبادرون عفويا?للتواصل ويختلقون الفرص لبدء الحديث معك حتى لو عن الطقس.
ولكن ما شدّ انتباهي ايضا في تجربتي، ان علاقاتي مع المحيط كانت تبدو عفوية في البدايات ثم تنقلب إلى شبه رسميّة واقرب إلى الجفاء، ثم وبعد مزيد من الاحتكاك والتعامل تتحول من جديد إلى زمالة وصداقة وأريحية في التعامل.
وكان معظم الحديث والاسئلة التي تطرح عليّ من الزملاء هي عن عدد الجِمال التي املكها وعدد الأغنام، وعن الصحراء والرمال، والحياة البرية في الصحراء، والطرق في الصحراء، واللباس المعتاد في الصحراء للرجال والنساء وغيرها. وعندما اجيبهم ان الأردن ليس كلّه صحراء بل بلد متحضر وان مدينة عمّان وسائر المدن الأردنية تماما كما هي المدن في اميركا كانوا يتحلقون حولي ويسألون عن مدى توفّر الكهرباء والماء والهواتف والمدارس والجامعات والسينما وما هو ابعد من ذلك.
في عام ١٩٧٦ في دورة اخرى في ولاية اخرى ومع أناس آخرين وزمن آخر وظروف اخرى مغايرة للظروف السابقة، لم تختلف معي الحال كثيرا، بل سألتني احداهن بلطف بالغ وعلى استحياء «ان كان لدينا نحن العرب أذناب» وعندما سألتها ماذا تعني اشارت بيدها تشبيها بالذنب وقالت ووجها مُحْمَرّ «كما القردة مثلا»، وعندما رأت تفاجؤي واستغرابي من سؤالها ثم سؤالي لها ان كانت تودّ ان تكتشف ذلك بنفسها، اعتذرت بلطف عن سؤالها وبدأت تتساءل عمّن غرس فيها هذه الأفكار.
في عام ١٩٨٣ في ولاية أميركية ثالثة وأثناء دورة القيادة والأركان أسهبت صاحبة المنزل الذي استأجرته بالشرح لي ولزوجتي عن كيفية استخدام دورة المياه والمكوى الكهربائي وسخان المياه، وعندما رأتني في وقت لاحق أشذّب الشجر وازرع بعض النباتات في ساحة البيت تفاجأت وسألتني ان كان لدينا في الصحراء حدائق!
اما جاري «جِمّ» فقد كان في بدايات الجيرة ينفحني بابتسامة وتحية عندما نتصادف ولكن بعد فترة حرمني منها، واحسست ان هنالك جفوة، وكرهت ان تستمر هذه الجفوة التي لم اعرف لها سبباً وتساءلت مع نفسي ان كان صدر مني او من زوجتي ما يسيء للجيران،
ولأن «جِمّ » ضخم يتربّع على أعلى درجات سلّم الضخامة وبحيث ان مصطلحات «نظير، نِدّ، قرين» لا تتناسب أبدا معنا بوجود شساعة فوارق الطول والعرض والكتلة، فكان عليّ ان أكون حذرا في تقاربي معه وخصوصا انني في غربة فلا اخ ولا صديق ولا جار يفزع.
ولأنني أعرف من ناحية أخرى أن الإنسان الأميركي صبور ويتقبّل الآخر ويستمع له حتى لو لم يعجبه قوله، فقد استغللت «وهج اليوم التالي» لزيارة زملائي الضباط الدارسين وزوجاتهم لبيتي وكانوا كثرا وملأوا المكان وأثاروا فضول الجيران (ماذا، من، لماذا، هل)، فبادرته بالتحية وقمت بدعوته لشرب فنجان قهوة فقبل الدعوة مشكورا مع ان التمنع كان بادياً عليه.
"جِمّ» كما قال لي، لم يكن لديه شيء ضدّي شخصيا، ولكنه علم بعد مجاورتي انني من العرب، وفي وجدانه ان العرب بَدْوٌ وقوم متوحشون متخلفون (وسم ارهابيين لم يكن قد بدأ بعد) اقرب ما يكونون للهنود الحمر، وهم كيأجوج ومأجوج كثرة يحاصرون حفنة اسرائيلية ضعيفة مضطهدة ويريدون الفتك بها واغتصاب نسائها وقتل أطفالها ورميها في البحر فما هذه الوحشية وفي أي غابة يعيشون!.. وبعد جلسة حواريّة استمرّت عدة ساعات تفهم فيها ان العرب شعب متحضر ليس كما يدور بخلده، وتفهم فيها نشأة وتطوّر القضية الفلسطينية ومن طرد من، ومن صاحب الارض ومن ا?معتدي، ومن هو الأقوى ومن هو الأضعف، عاد «جِمّ » الى بيته وهو متعاطف مع المظاليم الفلسطينيين ويتمنى ان يتمكن يوما من نصرتهم إذا اتيحت له الفرصة.
هذه المواقف من تجربتي كانت في مجتمع لا يمكن إلا ان أقول انه مجتمع متحضر لديه من الإمكانات والقدرات ما أوصله لقيادة العالم بأسره، فلا يعقل ان يتهمهم احد بالتخلف او الجهل، ولكن الإعلام الصهيوني كان قادرا في غياب إعلام عربي موازٍ على تشويه الصورة العربية المشرقة واستبدالها بصورة تستقطب العداوة والكراهية، وتستنفر القوى الفاعلة ضدنا ونحن في الزمان والموقف اللذين لا يعطياننا امكانية الرد الملائم.
المعلومات التي وصلت جاري العملاق «جم» غيّرت موقفه وحوّلته إلى صديق، وفي غياب الحوْل وتباين المواقف الدولية الحالية، نتمنى على الإعلام قلب الصورة النمطية العربية في خلد جماهير القوى العظمى كوسيلة لقلب الموازين وتبديل المواقف، فالإعلام في وقت ما قد يكون هو المعركة وهو الحرب نفسها.