الأخبار

أ. د. هاني الضمور : القيادة بالرحمة: حين تكون السلطة إنسانية

أ. د. هاني الضمور : القيادة بالرحمة: حين تكون السلطة إنسانية
أخبارنا :  

في عالم الإدارة، كثيرون يعتقدون أن القيادة تعني القوة، وأن النجاح يتحقق بفرض السيطرة، وإصدار الأوامر الصارمة، وإدارة الفرق بيدٍ من حديد. يظنون أن القائد الناجح هو من يُمسك بزمام الأمور بحزم لا يعرف اللين، وأن الرحمة ضعف، والتسامح مدخل للفوضى. لكن مهلاً هل هذا حقًا ما يجعل القيادة ناجحة؟ هل يمكن للقوة وحدها أن تبني مؤسسة مزدهرة، أو فريقًا مخلصًا، أو إرثًا إداريًا خالدًا؟
إذا تأملنا في النموذج الإلهي الأعلى، نجد أن الله سبحانه وتعالى عندما تحدث عن استوائه على العرش – وهو تعبير عن كمال ملكه وتدبيره للكون – اختار من بين أسمائه العظيمة اسمًا واحدًا ليكون شاهدًا على هذا الاستواء: «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» (طه: 5). لماذا لم يقل «الجبار»، أو «العزيز»، أو «القهار»، أو أي اسم من أسماء العظمة والهيبة؟ لماذا اختار صفة «الرحمن» تحديدًا، وهي الصفة التي تتحدث عن اللطف، والعطاء، والرعاية الشاملة؟
هذا الاختيار الإلهي ليس مجرد مصادفة لغوية، بل هو رسالة لكل من يتولى القيادة، بأن السلطة لا تُمارَس بالقوة وحدها، بل بالرحمة التي تسبق الحزم، وباللين الذي يسبق العقوبة، وبالعطاء الذي يسبق المحاسبة. فكما أن الله يُدبّر أمر العالم برحمة واسعة، فإن القائد الناجح هو الذي يدير فريقه بروح إنسانية، لا بروح متسلطة.
القائد الذي يظن أن النجاح يكمن في جعل الموظفين ينصاعون للأوامر دون نقاش، هو في الواقع يبني نظامًا هشًا، يعتمد على الخوف أكثر مما يعتمد على الولاء. مثل هذه القيادة قد تفرض الانضباط، لكنها لا تخلق الإبداع، قد تحقق الإنجازات قصيرة المدى، لكنها لا تصنع الاستدامة. الموظف الذي يعمل تحت تهديد العقوبات لن يعطي أكثر مما يُطلب منه، لكنه حين يعمل في بيئة تحترم إنسانيته، سيعطي بلا حدود.
انظر حولك في أعظم الشركات والمؤسسات الناجحة، وستجد أن قادتها ليسوا طغاةً متسلطين، بل ملهمون يعرفون كيف يحفّزون فرقهم، ويمنحونهم الأمان ليبدعوا، ويشعرونهم بأنهم جزء من رؤية عظيمة، لا مجرد أدوات في آلة العمل. هؤلاء القادة فهموا ما تعنيه القيادة الحقيقية: أن تكون حاضرًا حين يحتاج إليك فريقك، أن تدرك أن كل موظف هو إنسان له طموحات وأحلام ومخاوف، أن تفهم أن النجاح ليس فقط في تحقيق الأهداف، بل في بناء فرق تؤمن بهذه الأهداف وتسعى لتحقيقها بشغف.
البعض يخشى أن يكون رحيمًا في قيادته، معتقدًا أن الرحمة تعني التساهل، والتساهل يؤدي إلى الفوضى. لكن الرحمة في القيادة لا تعني التراخي، ولا تعني التغاضي عن الأخطاء أو التهاون في الإنجازات، بل تعني تحقيق التوازن بين العدل والإنسانية، بين الصرامة والتحفيز، بين وضع القوانين والتعامل مع الاستثناءات بحكمة.
القائد الرحيم ليس من يُهمل النظام، لكنه من يفهم أن القوانين وضعت لخدمة الإنسان، لا أن الإنسان خُلق لخدمة القوانين. إنه من يستطيع أن يرى أبعد من الأرقام والتقارير، فيفهم أن الإنتاجية الحقيقية لا تأتي من ضغط الموظفين حتى الإنهاك، بل من خلق بيئة يشعرون فيها بأنهم محل تقدير.
إنه القائد الذي يعرف أن العقوبة ليست دائمًا الحل، وأن التوبيخ ليس دائمًا الطريقة المثلى لتصحيح الخطأ، وأن الإنسان قد يرتكب الأخطاء لا لكونه مستهترًا، بل لأنه يحتاج إلى توجيه ودعم. إنه القائد الذي يعطي فرصًا جديدة، الذي يعرف كيف يُلهم لا كيف يُخيف، الذي يترك أثرًا في قلوب فريقه، لا مجرد توقيعات على قرارات صارمة.
في عصرنا هذا، لم تعد القيادة الصارمة كافية لضمان نجاح المؤسسات، بل أصبحت القيادة الإنسانية هي مفتاح الاستدامة. الدراسات الحديثة تؤكد أن بيئات العمل التي تُدار بروح التقدير والاحترام تحقق إنتاجية أعلى، وإبداعًا أكثر، وتحقق ولاءً وظيفيًا أقوى. الموظف الذي يشعر بأن قائده يفهمه، ويحترمه، ويدعمه، سيمنحه كل طاقته وإبداعه، وسيشعر أن نجاح المؤسسة هو نجاحه الشخصي.
ولعل أعظم مثال على ذلك هو النبي ، الذي كان أعظم قائد عرفته البشرية، ومع ذلك، كان أرحم الناس بأتباعه، يعاملهم بلطف، يحترم آراءهم، يستمع إليهم، ويتعامل مع كل شخص بحسب حاله. لم يكن ضعيفًا، لكنه كان قائدًا يفهم أن الإنسان يحتاج إلى من يؤمن به، لا إلى من يرهبه.
القيادة ليست فقط عن تحقيق الأهداف، بل عن بناء الفرق التي تستطيع تحقيق الأهداف حتى في غياب القائد. إنها ليست فقط عن اتخاذ القرارات، بل عن خلق بيئة تجعل القرارات تُنفَّذ بحب وإيمان لا بخوف وإجبار.
فكما أن «الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى» كان رسالة للعالم أن الحكم قائم على الرحمة قبل أي شيء آخر، فإن كل قائد ناجح يجب أن يجعل الرحمة ركيزة في أسلوبه الإداري، لأنها وحدها القادرة على صنع النجاح الحقيقي والمستدام.
كن قائدًا يلهم، لا قائدًا يُرهب. كن قائدًا يُذكر بالخير، لا قائدًا يُنسى فور غيابه. ففي النهاية، الناس لا يتذكرون القوانين التي وضعتها، بقدر ما يتذكرون كيف جعلتهم يشعرون وهم يعملون تحت قيادتك.

مواضيع قد تهمك