العين د. زهير ابوفارس يكتب : الاقتصاد السياسي الأردني.. بناء في رحم الأزمات

في استعراضه العلمي والممنهج لمسيرة الاقتصاد السياسي الأردني خلال مائة عام من تاريخ الدولة الأردنية المعاصرة، والذي أطره في كتابه: «الاقتصاد السياسي الأردني.. بناء في رحم الأزمات» (٢٠٢٤)، استطاع الدكتور جعفر حسان ان يشخص الحالة بشكل شمولي ودقيق، وبالتالي، الوصول إلى نصف الحلول، من مبدأ ان التشخيص يشكل نصف العلاج.والكاتب نفسه، يؤكد أن منهجية الكتاب تأسست على شقين: الأول-نظري، من خلال رؤيته ودراساته في مجال الاقتصاد السياسي؛ والثاني–عملي، من خلال تجربته الممتدة التي عمل فيها بمعية جلالة الملك عبدالله الثاني، ?بالقرب منه (٢٠٠٦-٢٠١٨)، ووزيرا للتخطيط والتعاون الدولي في ست حكومات متعاقبة، ونائبا لرئيس الوزراء، وصولا إلى موقع الولاية العامة، كرئيس للوزراء، منذ أيلول ٢٠٢٤. اي أن الرجل جمع بين تجربته كشخصية اقتصادية تكنوقراطية رفيعة، وسياسية، بحكم قربه من جلالة الملك، ونهله من مدرسة الهاشميين التي تتميز بالحكمة، والحنكة، والوسطية، والانسنة في ممارسة الحكم. اي أن أهمية هذا الكتاب تنبع من كونه من المصادر الأردنية القليلة التي تناولت هذا الموضوع، بالغ الحيوية، والذي يمكن أن يوفر مرجعا مهما في اختيار مسارات اقتصادية، تنطل? من واقعنا الأردني، في ظل ظروف محلية واقليمية ودولية متغيرة، يصعب التكهن بمآلاتها، لارتباطاتها بالتغيرات الجيو-سياسية في إلاقليم والعالم.
كما أن هذه المصفوفة يمكن ان تشكل مرجعا علميا وعمليا رصينا للخبراء والباحثين والمهتمين بالشأن الاقتصادي السياسي في بلادنا للمزيد من الدراسات الجادة في هذا المجال الحيوي. والملفت، أن الكاتب لم يستهدف الدفاع عن سياسات بعينها للحكومات المتعاقبة، بقدر ما كان يطمح إلى ضرورة إجراء المزيد من الدراسات العلمية والعملية في مجال السياسات الاقتصادية، من أجل الوصول إلى تصورات، تكون أكثر ملاءمة لواقعنا المعاش.
فالكتاب يتناول في فصوله الأربعة وخاتمته مسيرة الاقتصاد الأردني، والعوامل الإقليمية والدولية التي تأثرت بها، منذ نشأة الدولة، مرورا بأهم مراحل تطورها، وبخاصة الأحداث السياسية وتأثيراتها على النظم والنماذج الاقتصادية، من الرعوي الريفي في عهد الإمارة، إلى اقتصاد الخدمات في مرحلة ما بعد الاستقلال، وما اعقبه من حرب حزيران عام ١٩٦٧، وتدفق اللاجئين، وانتقال السكان من الأرياف إلى المدن، وتوسع فرص العمل في المؤسسات الحكومية، وانتشار التعليم، وتأثيرات الحروب والازمات الإقليمية على المسيرة التنموية، وصولا إلى الظروف ?لصعبة في مطلع تسعينيات القرن الماضي إثر أحداث نيسان لعان ١٩٨٩،وما بعدها، واضطرار الحكومات لاتخاذ خطوات استثنائية لإعادة بناء الاقتصاد، وارساء دعائم لنموذج اقتصادي مستدام، كبديل لنمط الاقتصاد الاتكالي- الريعي، الذي شكل خطرا على استقرار المملكة وامنها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
كما يتناول الكتاب بالتحليل الموضوعي مرحلة توسعة القطاع العام، الذي ساهم في توظيف نصف القوى العاملة في الدولة، والمساعدات الخارجية منذ منتصف الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات، والتي وصلت في بعض السنوات إلى أكثر من (١٢٠ في المائة) من النفقات الحكومية، مما خلق حالة اتكالية من اعتماد القطاع الخاص على الإنفاق الحكومية، بشكل أساسي. وهي مرحلة تميزت بزيادة تحويلات المغتربين، التي مولت استثمارات القطاع الخاص، في مجالات العقارات، والانشاءات والاستهلاك، وفي نفس الوقت، بروز ظاهرة استيراد العمالة في مجالات الزراعة والبنا?، يقابلها تصدير الكفاءات للخارج في مجالات التعليم، والهندسة، والصحة، والإدارة.
ويتطرق الكاتب إلى مرحلة نجاح السياسات التنموية والبناء البنيوي المتسارع الذي تميز به الأردن، وحكمة القيادة بالاستخدام الفاعل لما تحقق من موارد خارجية، وبخاصة في بناء القدرات البشرية والبنية التحتية. ».. إلا أن الاقتصاد الأردني لم يصل إلى مرحلة الاستدامة او الاعتماد على الموارد الداخلية، عندما تلاشى معظم الدعم الخارجي في منتصف الثمانينات، مما اضطره اللجوء إلى الاقتراض لسد ما توقع أن يكون مجرد ضائقة مرحلية، في حين كان الواقع والمستقبل يشيران إلى تحولات تاريخية في المنطقة (اقتباس)..». ويضيف: «لقد أدى التوجه إ?ى القروض المكلفة بدلا عن المنح إلى وقوع كارثة اقتصادية ومالية في عام ١٩٨٨، لم يتعاف منها الأردن إلا بعد سبعة عشر عاما، من حيث أثرها في مستويات الدخل للافراد. ووصلت المديونية إلى مستويات قاربت الناتج المحلي الإجمالي في نهاية الثمانينات..». حيث شهد عقد التسعينات بداية برامج الأردن مع صندوق النقد الدولي وبرامج الخصخصة المعروفة.
اما في الفصل الثاني فيتناول العقد الأول من عهد الملك عبدالله الثاني ورؤية جلالته في بناء الاقتصاد المستدام وضرورات الإصلاح في القطاعات الرئيسية، حيث:» استهدفت الرؤية الملكية استبدال الاستثمارات بالمساعدات، وتعزيز إمكانية الاعتماد على الذات، من خلال بناء القطاعات المعرفية، والتصديرية، وزيادة تنافسيتها عالميا، لبناء قطاع خاص قوي، يكون ركيزة لاقتصاد المملكة، وتوجيه الإنفاق الحكومي للتعليم، والصحة وشبكة الأمان الإجتماعي..». حيث تحول الأردن خلال الخمس سنوات الأولى من عهد الملك عبدالله الثاني إلى ما يشبه ورشة ع?ل كبيرة (كما يصفها الكاتب) شملت قطاعات عديدة، بالرغم من الأزمات المحيطة، التي تطلبت من جلالته قيادة البلاد في وجه تحديات أمنية واقتصادية غيرت مسار المنطقة، مما سارع في وتيرة الإصلاح الاقتصادي، التي بدأت مع نهاية القرن العشرين، حيث وصلت معدلات النمو الاقتصادي الى حوالي (٨ في المائة) خلال الاعوام ١٩٩٩-٢٠٠٩، نتيجة لارتفاع مستويات الصادرات والاستثمارات الخارجية والداخلية، التي تضاعفت أكثر من مرة.
اما في الفصلين الثالث والرابع فيتوقف الكاتب عند اهم المحطات في العقد الأخير، والذي تميز بتحديات النمو المتدني، وتراكم المديونية، وتآكل دخل الفرد، وارتفاع مستويات البطالة، واحتداد الأزمات الإقليمية إلى أعلى مستوياتها (الربيع العربي، الحرب في سوريا الإرهاب، تفاقم الحصار التجاري بسبب إغلاق الحدود في سوريا والعراق لفترات طويلة، وجائحة كورونا وآثارها الاقتصادية. وكذلك..» جاء التركيز على ما يمكن تحقيقه من خلال استعراض المراحل السابقة، واخضاع المحطات المهمة خلال العقود الماضية للتحليل الموضوعي، وبما يتيح التعرف ع?ى الإنجازات والاخفاقات الرئيسية، والخيارات الممكنة..».
كما يركز على أربعة محاور أساسية، من أجل إطلاق إمكانيات النمو، وتعزيز الاعتماد على الذات، وهي: «التشغيل، والطاقة، والضريبة، والإدارة الحكومية..».
ويخلص الدكتور جعفر حسان الى"ضرورة وجود استراتيجية واضحة في برامج الإصلاح المالي، للتحول التدريجي من ضريبة المبيعات إلى ضريبة الدخل، كي تصبح المصدر الأساسي للايرادات المحلية، بالإضافة إلى ضمان استراتيجية مؤسسية مستدامة لتعزيز التحصيل، ومكافحة التهرب الضريبي، وتحقيق العدالة..». كما يشير الكاتب إلى أن متطلبات الإصلاح تستدعي وعي المسؤول بأنه يتمتع بصلاحياته كاملة، وفقا للدستور وما نصت عليه القوانين بشأن منصبه، وطبيعة المهام الموكولة إليه. إضافة إلى أن المشكلة الأساسية لا ترتبط بتغيير الحكومات، بقدر ما تكمن في ?لية عملها.
ويختم الكاتب بالإشارة الى تغيرات في المعادلة الاقتصادية، وارتباط ذلك بانخفاض الإنفاق الراسمالي، وجفاف المساعدات الخارجية، وظهور حالة من الاستقطاب بين القطاعين العام والخاص،منذ اوائل التسعينات، حيث «اتخذت شكل التنافس على النفوذ والسياسات والمصالح، نتيجة تساقط النموذج الإتكالي للدولة، فازداد اعتماد الدولة على القطاع الخاص على الإنتاج لتحصيل الضريبة، التي أصبحت المورد الأساسي للدولة، ليعاد توزيعها للقطاع العام، مع انخفاض الإنفاق الراسمالي، وارتفاع النفقات الجارية، من كلف رواتب وتقاعدات». ليصل الكاتب إلى السؤا?: كيف نمضي للأمام؟، ليجيب: «لا بد من التحول في العلاقة بين القطاعين العام والخاص، من التبعية إلى التكاملية، فنجاح اي منهما او فشله، مرتبط بنجاح الآخر او فشله..».
وأخيرا، فإن السر في قدرة الأردن على الصمود أمام التحديات الإنسانية، والجغرافية، والسياسية (حسب الكاتب).."يكمن في طبيعة نظامنا السياسي الملكي الدستوري، وبنية مؤسساته، وحكمة قيادته وبعد نظرها..». ويضيف:"بأن التحديات الاقتصادية لن تزول، لكن الإيمان بقدرة الأردنيين على الإبداع والتجديد وإعادة البناء، ويتعزز ذلك بعد كل أزمة، فبتكاتفهم وإصرارهم تزداد المملكة قوة ومنعة، وتلو الثقة بالمستقبل، بعيدا عن الخوف والتشكيك..».
نعم، نحن أمام شخصية استثنائية تمتلك رؤية ونهجا واضحين، للتعامل مع التحديات الكبرى التي تواجه بلدنا، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا، ولديه من الأفكار والتطلعات التي تحتاج إلى دراسة وتحليل لوضع الخطط والبرامج لتطبيقها على أرض الواقع. واذا ما أضفنا الى رصيد د.جعفر حسان العلمي والعملي، صفاته الشخصية الأخرى، كالعصامية، والمثابرة، والإنحياز للعمل الجاد والإبداع، إضافة إلى النزاهة، وغياب الأجندة الخاصة والأهواء الذاتية، فإننا سنكون أمام حالة أردنية يمكن اسثمارها لمصلحة بلدنا وتطوره القادم، في ظل قيادة هاشمية ?ذة، لطالما راهنت على الكفاءات والطاقات الأردنية الكامنة..وما أكثرها!، ودولة د.جعفر حسان احد نماذجها المميزة.. ــ الراي