د. محمد العرب : حين تصبح التفاهة قنبلة إعلامية
نعيش اليوم في عصر يمكن وصفه بعصر (الأجوف)، حيث تتحول التفاهة إلى أداة قوة، ويصبح السطحي عنواناً للعصر الحديث ، عصرٌ تتحكم فيه الخوارزميات لا القيم، وتهيمن فيه الأرقام على العقول، فتحوّلت المواقع الاجتماعية من أدوات للتواصل إلى مسارح تُبجِّل الزيف وتحتفي بالمظهر. لقد بات (المؤثرون) الذين غالباً لا يحملون تأثيراً حقيقياً سوى في الأرقام المضللة، رمزاً للثقافة السطحية التي تُروّج الجهل باعتباره معرفة، وتسوّق التفاهة على أنها إبداع.
منذ متى أصبح لعدد المتابعين صوت أعلى من المنطق؟ متى بدأ العالم يصفق للشخصيات الكرتونية التي لا تملك سوى مهارة التكرار والاجترار؟ الإجابة بسيطة ومُرّة: منذ أن تخلّى الإنسان عن شغفه بالمعرفة وسلّم زمام عقله للشاشة !
في الماضي كانت الشهرة تُبنى على أساس العمل، الفكر، أو الإبداع الحقيقي. أما الآن، فهي تُصنع عبر رقصة سخيفة أو مقطع فارغ من أي محتوى هادف.
المنصات التي وُلدت لتكون أدوات حرية أصبحت سجوناً للعقول ، لم يعد المهم هو الجودة أو القيمة، بل مدى قدرتك على جذب الأنظار ولو بأكثر الطرق تفاهة. المؤثر الذي يُفترض أن يكون مرآة للتجربة الإنسانية العميقة، أصبح مجرد منتج يفتقد الأصالة، يبيع صوته ومبادئه لمن يدفع أكثر. أين اختفى الضمير؟ أين غاب الرقيب المسؤول عن توجيه الرأي العام؟
ليس الغضب هنا موجّهًا ضد الأفراد فقط، بل ضد الثقافة السائدة التي تحتضن التفاهة وتنفي كل ما هو عميق. لقد تحوّل الإعلام نفسه إلى شريك في هذه الجريمة. ففي كثير من الأحيان، نرى المؤسسات الإعلامية الكبرى تركض وراء المؤثرين للاستفادة من أرقامهم، حتى وإن كان مضمونهم يشبه الفراغ.
إذا كنت تبحث عن مؤشرات هذا الانحدار، فاسأل نفسك: لماذا تُستبدل الشخصيات المؤثرة ذات القيمة بشخصيات تُجيد الصراخ أو السخرية أو نشر الترهات؟ لماذا أصبح التهريج وسيلة لكسب العيش؟ ببساطة، لأننا كبشر فقدنا قدرتنا على التمييز بين الحقيقي والزائف، بين ما ينفع وما يضر.
الضحايا هنا ليسوا فقط من يتابعون هذه المحتويات الرديئة، بل المجتمع بأكمله. إن تسطيح الخطاب الثقافي والإعلامي له تبعات خطيرة. حينما يصبح المهرجون هم من يحددون النقاش العام، تغيب القضايا الحقيقية. وحين يُختصر الإبداع في عدد الإعجابات والمشاهدات، يُدفن المستقبل تحت جبال من القشور.
ما يزيد الألم أن هناك عقولاً لامعة وأفكاراً نابغة تُدفن في الظلال لأن العالم أصبح مُصمَّماً للاحتفاء بالضجيج لا بالمعنى. هؤلاء الذين يحملون أفكاراً عميقة ويبحثون عن الحقيقة، يُهمّشون لأنهم لا يرقصون على الإيقاع الزائف للعصر.
يُقال إن كل عصر له مرضه. ومرض عصرنا هو (الإفراط في السطحية) لقد أصابتنا عدوى (الترند) حيث يسعى الجميع للحاق بالركب، حتى لو كان هذا الركب يقود إلى الهاوية. المأساة هنا ليست فقط في أننا نحتضن هذه السطحية، بل في أننا ندافع عنها ونُعظّمها.
الحل ليس مستحيلاً لكنه يتطلب شجاعة. علينا أن نعيد تعريف معنى التأثير، أن نضع معايير جديدة للقيمة، وأن نرفض الانصياع لهذا المدّ الجارف من التفاهة. علينا أن ندعم الإبداع الحقيقي، الفكر الأصيل، والذين يتحدثون بصدق لا بصراخ.
الأمر يبدأ منك ومني. توقف عن متابعة من لا يضيف شيئاً إلى حياتك. اسأل نفسك: هل هذه المتابعة تستحق وقتي وعقلي؟ امنح صوتك لمن يسعى لتحسين العالم، لا لمن يسعى لتضييعه.
طوفان (المؤثرين) ليس قدراً ، بل اختيار ونحن نملك القوة لتغييره ولكن هذا لن يحدث إلا إذا تجرأنا على مواجهة هذا المدّ الزائف بشجاعة، ورفضنا أن نكون جزءاً من هذه المسرحية العبثية التي يصفق فيها الجميع وهم يعلمون أن العرض بلا مضمون. ــ الدستور