اسماعيل الشريف يكتب : لن أبكيكِ لوس أنجلوس
إذا سمل أحد عين آخر، فليس من العدل أن يكتفى بسمل عينه... فالمذنب يجب أن ينال من الأذى أكثر مما تسبب به. – أرسطو
ضربت سوريا أسوأ موجة جفاف في تاريخها بين عامي 2006 و2010، مما أدى إلى انهيار القطاع الزراعي، خاصة في المناطق الشرقية مثل محافظة الرقة. وقد تسبب هذا الانهيار في دفع أكثر من مليون ونصف مزارع للهجرة نحو المدن، الأمر الذي زاد الضغط على البنية التحتية الحضرية، وأسهم في تفاقم معدلات البطالة والفقر. وكانت هذه الأزمة واحدة من الأسباب الرئيسة للثورة السورية في عام 2011.
وبالطبع، حتى أكون منصفًا، فهناك عشرات الأسباب الأخرى التي ساهمت في اندلاع الثورة، مثل القمع السياسي والاستبداد الذي بدا واضحًا في تعامل النظام مع المحتجين، بالإضافة إلى الفساد، وسوء الإدارة، والظلم الاقتصادي، والتمييز الطائفي والسياسي، وفساد الطبقة الحاكمة، والتأثر بموجة الربيع العربي.
وفي النهاية، سقط النظام السياسي وتغيرت سوريا إلى الأبد.
وها هو الجفاف والتغير المناخي يتجه نحو أقوى دولة في العالم، ليضرب أهم ولاياتها كاليفورنيا، وأبرز مدنها: لوس أنجلوس، عاصمة صناعة الترفيه في العالم، ورمز الحلم الأمريكي، ومدينة الفرص والشهرة والثراء.
فبعد سنوات من الجفاف وارتفاع درجات الحرارة، التي أدت إلى تراكم الأشجار والأعشاب الجافة، أصبحت لوس أنجلوس أكثر عرضة للحرائق. وبسبب رياح «سانتا آنا» الجافة والقوية، انتشرت النيران في مناطق واسعة من المدينة، في حريق لم تشهد له مدن العالم مثيلًا في التاريخ.
وبرأيي، كما أدى الجفاف الذي ضرب سوريا إلى تغييرات جذرية، ستؤدي حرائق كاليفورنيا إلى تغييرات جوهرية في الولايات المتحدة.
أولى هذه التغييرات هي حجم الدمار الهائل الذي ستخلفه الحرائق، إذ يُقدّر بعض المراقبين أن خسائر حرائق كاليفورنيا قد تقترب من إجمالي المبالغ التي دفعتها الولايات المتحدة للدول المارقة في تاريخها، بما في ذلك مجموع المساعدات التي قدمتها لدعم حرب الإبادة في غزة، والتي تجاوزت المساعدات العسكرية وحدها الأربعين مليار دولار.
وقد أدى ذلك إلى تصاعد الانتقادات للحكومة الأمريكية بسبب أولوياتها المالية، حيث يتركز الدعم العسكري والسياسي المكثف للكيان الصهيوني على حساب الخدمات الأساسية للمواطن الأمريكي، مما يفاقم تآكل ثقة المواطنين بقيادتهم السياسية. ومن المحتمل أن ينعكس ذلك في تزايد مشاعر الكراهية تجاه الكيان الصهيوني، وقد نشهد في المستقبل تأثير ذلك على صناديق الاقتراع، عبر إيصال سياسيين مناهضين للصهاينة أو أقل دعماً لهم.
ولا تستغرب، عزيزي القارئ، إن كانت هذه الحرائق سببًا في تغيير سياسة ترامب تجاه منطقتنا.
وهذه الحرائق تسلط الضوء على ضعف الحكومة الفدرالية وفشلها في حماية مواطنيها، مما يرسخ حالة الانقسام والاستقطاب السياسي المتصاعدة. وقد نشهد في المستقبل تصاعدًا في مطالبات بعض الولايات بالانفصال، في ظل تفاقم الشعور بعدم الكفاءة والعدالة في إدارة الأزمات الوطنية.
وبالطبع، ستتزايد التساؤلات حول قضايا تهديد الرأسمالية للبيئة، وتصاعد النزعة الفردية، والتفكك الاجتماعي، بالإضافة إلى نفوذ جماعات الضغط والمال الذي يتحكم بمسار السياسة الأمريكية.
بقية مقال إسماعيل الشريف
لن أبكيكِ لوس أنجلوس
وعلى الصعيد الشخصي، وبكل صراحة، لم أشعر بأي تعاطف مع هذه الحرائق، وأعتقد أن كثيرين يشاركونني هذا الشعور، فقد تزامنت مع مشاركة الولايات المتحدة الصارخة والفجة في حرب الإبادة في غزة. وأعجز عن مقارنة هذه الحرائق بمأساة غزة، التي أراها تفوق جميع مآسي العالم الأخرى، لأنها من صنع البشر.
على مدى أكثر من عام، شاهدنا مئات الآلاف يُقتلون ويصرخون من تحت الركام، رأينا أشلاءً ممزقة وأطفالًا يموتون بكل أشكال الموت الأمريكية الصهيونية، من تفجير وجوع وبرد.
بل وشعرت بالشماتة تجاه مذيعي الأخبار الذين تحدثوا عن خسائرهم الكبيرة، وهم أنفسهم الذين قلبوا الحقائق خلال حرب غزة، وسرقوا وعي الشعوب في حرب الإبادة بادعاءات كاذبة، مثل زعمهم أن حماس أحرقت الأطفال واغتصبت النساء.
وأكثر من شعرت بالشماتة تجاهه هو الممثل الأمريكي الشهير جيمس وودز، الذي ظهر باكيًا على شبكة CNN لفقدانه قصره الذي تحول إلى رماد، بينما كان قبل أشهر فقط يدعم وسمًا على منصة X بعنوان «لا لوقف الحرب – اقتلوهم جميعًا!» في إشارة إلى غزة.
يتحدث أصدقائي عن جمال المدينة، لكنني لم أرَ سوى مشاهد الشرطة وهي تقمع الطلاب السلميين في جامعة كاليفورنيا خلال مظاهراتهم المناهضة للإبادة الجارية في غزة؛ يهدمون خيامهم، يضربونهم، ويطردون أساتذتهم. ثم يقف المشاهير على المنصات، يخطبون في الناس، متحدثين عن معاداة السامية، بينما يصورون الفلسطينيين كإرهابيين.
عزيزي القارئ، اتهمني بما شئت، لكني أقولها صراحة: حرائق كاليفورنيا تحمل لعنة غزة، فكما يقال، الجزاء من جنس العمل.
عذرًا، لوس أنجلوس، لن أبكيكِ... فقد جفّت دموعي في غزة. ــ الدستور