الأخبار

د. عدلي فندح : المديونية.. اختبار لقدرة الدولة

د. عدلي فندح : المديونية.. اختبار لقدرة الدولة
أخبارنا :  

المديونية ليست مجرد أرقام تُسجل في التقارير، بل هي انعكاس لقرارات وسياسات اقتصادية تتداخل مع الظروف الاجتماعية والسياسية. في الدول العربية، باتت المديونية مقياسًا يُظهر مدى قدرة الحكومات على الموازنة بين احتياجات التنمية وضغوط التمويل، وتحويل الدين إلى أداة داعمة للنمو بدلاً من كونه عبئًا اقتصاديًا. بيانات صندوق النقد الدولي لعام 2024 تكشف عن مستويات متفاوتة من الديون بين الدول العربية، وتطرح تساؤلات حول أسبابها وهياكلها وطرق إدارتها.
تُعد مصر من بين الدول ذات المديونية المرتفعة، حيث بلغ الدين الحكومي 345.5 مليار دولار، ما يعادل 95.8% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل مرتفع يتجاوز الحدود الآمنة عالميًا. تعتمد مصر على نماذج اقتصادية تشدد على أهمية الإنفاق الحكومي لتحفيز النمو، بما يتماشى مع النظرية الكينزية (Keynesian Theory)، التي تؤكد أن زيادة الإنفاق الحكومي يمكن أن يخلق طلبًا اقتصاديًا إضافيًا، ما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية وفرص العمل. ومع ذلك، تواجه مصر تحديات كبيرة بسبب اعتمادها الكبير على الدين الخارجي، الذي يُشكل حوالي 65% من إجمالي الدين العام، ما يجعلها عرضة لنظرية «مصيدة الديون» (Debt Trap)، حيث تتحول القروض الخارجية المرتفعة إلى عبء إذا لم يتم توجيهها لمشروعات ذات عوائد اقتصادية فورية. ويُظهر الوضع الحالي أن مشروعات كبرى مثل العاصمة الإدارية الجديدة، رغم أهميتها الاستراتيجية على المدى الطويل، لم تُظهر عوائد فورية كافية لتخفيف الضغوط المالية.
في المقابل، تتمتع السعودية بمستويات مديونية أقل، حيث بلغ إجمالي الدين 311.5 مليار دولار، بنسبة 24% فقط من الناتج المحلي الإجمالي، وهو معدل آمن وفقًا للمعايير الدولية. تعتمد السياسة الاقتصادية السعودية على نظريات مثل نموذج النمو (Harrod-Domar Model)، الذي يشدد على أهمية الاستثمار لتحقيق نمو مستدام. وفقًا لهذه النظرية، فإن زيادة معدلات الاستثمار يمكن أن تؤدي إلى نمو اقتصادي إذا تم توجيهها نحو القطاعات الإنتاجية المناسبة. وقد نجحت السعودية في تحويل الدين إلى أداة تنموية من خلال تمويل مشاريع رؤية 2030 الطموحة، مثل مدينة نيوم والاستثمار في الطاقة المتجددة والسياحة. يُموَّل هذا التوسع الاقتصادي عبر السندات السيادية طويلة الأجل وبأسعار فائدة منخفضة، مما يقلل من تأثير تقلبات الأسواق العالمية ويضمن استدامة الدين.
الإمارات العربية المتحدة تقدم نموذجًا آخر للإدارة الناجحة للمديونية، حيث بلغ الدين الحكومي 171.1 مليار دولار، بنسبة 32% من الناتج المحلي الإجمالي. تعتمد الإمارات على نظرية «الأثر المضاعف» (Multiplier Effect)، حيث تُستثمر الديون في مشاريع استراتيجية تحقق عوائد اقتصادية متعددة، مثل إكسبو 2020 والبنية التحتية المتقدمة. هذه المشروعات لا تساهم فقط في تعزيز الناتج المحلي الإجمالي، بل تضع الإمارات في موقع ريادي عالمي في مجالات الأعمال والخدمات اللوجستية. يتميز النموذج الإماراتي بإصدار ديون طويلة الأجل بتكاليف منخفضة، مع توجيه القروض نحو قطاعات تحقق تدفقات نقدية مستدامة، مما يعزز من استقرار الاقتصاد على المدى البعيد.
الوضع في العراق مختلف نسبيًا، حيث بلغت مديونيته 121.2 مليار دولار، ما يعادل 35% من الناتج المحلي الإجمالي. رغم أن نسبة الدين تبدو معتدلة مقارنة بدول أخرى، إلا أن الاقتصاد العراقي يواجه تحديات كبيرة بسبب اعتماده شبه الكلي على النفط. يعاني العراق من ظاهرة «المرض الهولندي» (Dutch Disease)، حيث يؤدي الاعتماد الكبير على النفط، الذي يشكل أكثر من 90% من الإيرادات الحكومية، إلى تراجع أداء القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الزراعة والصناعة. كما يواجه الاقتصاد العراقي «لعنة الموارد» (Resource Curse)، حيث تعيق الوفرة النفطية التنمية الاقتصادية المستدامة بسبب غياب التنويع الاقتصادي. ومعظم الديون تستخدم لتغطية النفقات التشغيلية بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية، مما يزيد من هشاشة الوضع المالي للدولة.
الأردن يمثل حالة مديونية مرتفعة رغم أن حجم الدين أقل من غيره، حيث بلغ 48.9 مليار دولار، لكن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وصلت إلى 115%، مما يجعله من بين الدول ذات العجز المالي المرتفع. يعكس هذا الوضع تأثير نظرية «الاعتماد» (Dependency Theory)، حيث يعتمد الاقتصاد الأردني بشكل كبير على المساعدات الخارجية والقروض الدولية لتمويل عجز الميزانية. كما يعاني الأردن من تأثيرات نظرية «الضغط المالي» (Fiscal Stress)، التي تشير إلى أن استمرار العجز في الموازنة يؤدي إلى ضغوط متزايدة على الإنفاق الحكومي، ما يعيق تنفيذ إصلاحات اقتصادية فعالة. ومع ذلك، تبذل الحكومة الأردنية جهودًا لتحسين الوضع المالي من خلال تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتنفيذ إصلاحات هيكلية تهدف إلى زيادة الإيرادات الضريبية.
لمعالجة المديونية والتخفيف من آثارها السلبية، ينبغي على الدول العربية تبني سياسات إصلاحية شاملة، والتي من أبرزها: أولًا، يتعين تعزيز الإيرادات الحكومية من خلال إصلاح الأنظمة الضريبية ومكافحة التهرب الضريبي، خاصة في الدول ذات الاقتصادات غير الرسمية الواسعة. ثانيًا، يمكن تقليل الاعتماد على القروض الخارجية عبر تعزيز الاقتراض المحلي وإصدار سندات طويلة الأجل بالعملات المحلية، ما يقلل من مخاطر تقلبات العملات الأجنبية. ثالثًا، يجب توجيه القروض نحو مشروعات تحقق عوائد اقتصادية واضحة ومستدامة، بدلًا من إنفاقها على نفقات تشغيلية لا تضيف قيمة اقتصادية طويلة الأجل. وأخيرًا، تعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الدين أمر ضروري لضمان الاستخدام الأمثل للموارد المالية لصالح التنمية المستدامة.
إدارة المديونية ليست مجرد تحدٍ مالي، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الدول على تحقيق التوازن بين احتياجات التنمية وضغوط التمويل. الدول التي تنجح في تحويل الدين من عبء إلى أداة للنمو، مثل السعودية والإمارات، تقدم نماذج يمكن أن تحذو حذوها الدول الأخرى، بينما تحتاج دول مثل مصر والعراق والأردن إلى إصلاحات أكثر عمقًا لضمان تحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي المستدام. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك