الأخبار

د. محمد العرب : السياسة: خدعة العلم الذي لم يكن علماً قط

د. محمد العرب : السياسة: خدعة العلم الذي لم يكن علماً قط
أخبارنا :  

لا أخفيكم ، تلك الليلة كانت مزيجاً من الأرق والتأمل، إذ وجدت نفسي في سجال عميق مع أخ سوداني كريم، يرى في السياسة علماً قائماً على القوانين والنظريات ، أما أنا فتمسكت برؤيتي أنها ليست سوى فن بشري متقلب، تحكمه المصالح والأهواء أكثر من المنطق والعقل. تساءلت بيني وبين نفسي: كيف يمكن لعلم أن يفتقد إلى الثبات ويُخضع نتائجه لعشوائية البشر؟ لم يكن النقاش بيننا مجرد جدل، بل رحلة فكرية غاصت في أعماق التساؤلات الوجودية، حيث لم يكن الهدف الانتصار، بل فهم اختلاف زوايا الرؤية. ومع بزوغ الفجر، أدركت أن الحقيقة نفسها قد تكون نسبية، كما هو حال السياسة.
منذ أن بدأت البشرية تأطير السياسة كمجال دراسي، برزت محاولات عديدة لتصنيفها كعلم مشابه للفيزياء أو الكيمياء، ولكن هذا الادعاء ينهار أمام أسئلة جوهرية. إذا كانت السياسة علماً، فأين القوانين الثابتة؟ أين القدرة على التنبؤ المطلق؟ ولماذا تختلف نتائج السياسات جذرياً بين دولتين تحت نفس الظروف الظاهرية؟ الإجابة البسيطة هي: السياسة ليست علماً، ولن تكون.
السياسة تفتقر إلى الركائز الأساسية للعلم ، أولاً أحد أهم أعمدة العلم هو القابلية للتكرار والتجريب ،في العلوم الطبيعية إذا أجريت تجربة في بيئة محددة، يمكنك تكرارها في بيئة مشابهة والحصول على نفس النتائج ، وفي السياسة هذا من سابع المستحيلات ، الثورة الفرنسية تختلف عن الثورة البلشفية، وما يسمى ظلماً وبهتاناً بالربيع العربي أظهر نتائج متناقضة في تونس وسوريا واليمن والسودان ، رغم تشابه الظروف الأولية فإن السياسات التي قادت كل حالة أثمرت نتائج مختلفة. هذا ليس عيباً في السياسة بقدر ما هو دليل على أنها لا تخضع لقوانين ثابتة، بل تتأثر بمزيج معقد من العوامل الثقافية، الاجتماعية، التاريخية، والنفسية التي لا يمكن قياسها أو عزلها بدقة.
ثانياً العلم يعتمد على الموضوعية، بينما السياسة غارقة في الذاتية والقيمية ، العلوم الطبيعية تعمل على تفسير الظواهر بناءً على حقائق موضوعية يمكن قياسها وتحليلها بينما السياسة في المقابل، هي صراع على السلطة محكوم بالمصالح الشخصية والأيديولوجيات. حتى عندما تستخدم أدوات علمية مثل الإحصاء أو تحليل البيانات، تكون النتائج متأثرة بانحيازات الباحثين أو الأجندات التي تخدمها. يمكن لنفس البيانات أن تدعم وجهتي نظر متناقضتين، لأن السياسة لا تسعى لإيجاد الحقيقة المطلقة، بل لإثبات صحة موقف معين.
ثالثاً السياسة لا تقدم تنبؤات دقيقة. أحد معايير العلم هو قدرته على التنبؤ بالنتائج المستقبلية. إذا كان لدينا معطيات عن الكواكب، يمكننا توقع موقعها في المستقبل بدقة. أما في السياسة، فلا يمكن التنبؤ بشكل قاطع بتداعيات قرار معين. على سبيل المثال، كانت الحرب الأمريكية في العراق مدعومة بتوقعات بأنها ستنشر الديمقراطية، لكنها انتهت بفوضى طويلة الأمد، لأن العوامل السياسية لا يمكن حصرها في معادلة رياضية.
أخيراً السياسة تعتمد على القوة والإقناع أكثر مما تعتمد على المعرفة العلمية. في العلوم، الفرضيات تُختبر بناءً على الأدلة، أما في السياسة، القرارات تُفرض بناءً على السلطة والقوة. هل يمكن اعتبار قرار سياسي، جاء من قائد شعبوي أو ضغط لوبي مؤثر، نتيجة لعملية علمية؟ السياسة، في جوهرها، هي عملية إنسانية مليئة بالصراعات والتناقضات، لا علمية تتبع منهجاً دقيقاً عند تحليل السياسة بعمق، ندرك أنها ليست علماً ، بل فنٌ هشٌ يعتمد على التفاوض، القوة، والمهارة في إدارة التوازنات البشرية. محاولة تقديمها كعلم ليست سوى خدعة لتعزيز الشرعية أو إخفاء الأجندات خلف قناع العقلانية.
في النهاية، ما يحكم السياسة ليس المعادلات أو القوانين، بل البشر بكل تناقضاتهم وضعفهم. ــ الدستور

مواضيع قد تهمك