الأخبار

أ. د. هاني الضمور : الباراديغم: قراءة علمية وقرآنية لفهم أحداث غزة

أ. د. هاني الضمور : الباراديغم: قراءة علمية وقرآنية لفهم أحداث غزة
أخبارنا :  

في عالمنا الحديث، يمثّل مفهوم «الباراديغم» أو «نظّارة العقل» أحد أبرز الأدوات الفكرية التي تفسّر كيف يتفاعل الإنسان مع الواقع. إنه الإطار الفكري والإدراكي الذي يوجّه نظرتنا للأحداث، ويشكل الطريقة التي نحلل بها ما يدور حولنا. ومع أحداث غزة المؤلمة التي تتصدر المشهد اليومي، تبرز أهمية فهم الباراديغم كوسيلة لتحليل هذا الواقع المركب من منظور علمي، قرآني، وأدبي.
علميًا، يعكس الباراديغم كيف تحكم المعرفة المسبقة والتجارب السابقة إدراك الإنسان للواقع. في سياق غزة، نجد أن الإدراك العالمي للأحداث محكوم بعدسات مختلفة: هناك من يرى القضية من منظور سياسي بحت، وآخرون ينظرون من زاوية إنسانية، بينما ينظر فريق ثالث من خلال نظرة اقتصادية أو أمنية. هذا التباين في الفهم هو نتيجة طبيعية لتأثير الباراديغم في تشكيل التفسيرات والقرارات. علم الاجتماع يُعرّف هذا الظاهرة بأنها «الإطار الإدراكي الجمعي»، حيث تساهم الخلفيات الثقافية والسياسية في بناء تصور جماعي قد يكون محدودًا أو مغلوطًا.
أما من منظور قرآني، فإن الأحداث في غزة تدعونا إلى التأمل في حكمة الله وعدله، وكيف يتجاوز علمه كل ما يُدركه الإنسان بعقله المحدود. قال الله تعالى: «وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْـئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْـئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» (البقرة: 216). هذه الآية تكشف عن عمق الفارق بين الباراديغم الإنساني المحدود والعدالة الإلهية المطلقة. الإنسان يرى الأحداث بعين قاصرة، محكومة بالمظاهر والمصالح، بينما يعلم الله الحكمة الكاملة خلف كل حدث. ما يحدث في غزة ليس فقط مشهدًا سياسيًا، بل اختبارًا إلهيًا للعدل والصبر، ودعوة لفهم الحياة بمنظور يتجاوز حدود الواقع المادي.
أدبيًا، غزة ليست فقط مكانًا جغرافيًا أو عنوانًا للأخبار، بل هي قصة إنسانية تتداخل فيها مشاعر الألم والصمود. أدب المقاومة الفلسطيني مليء بالأمثلة التي تُبرز كيف يشكل الباراديغم الوعي الجمعي تجاه الاحتلال. الشاعر محمود درويش، على سبيل المثال، كتب عن فلسطين من منظور يدمج بين المشاعر الفردية والهموم الجماعية، قائلاً: «على هذه الأرض ما يستحق الحياة على هذه الأرض سيدةُ الأرض، أم البدايات، أم النهايات»، وهنا يظهر كيف يمكن للأدب أن يتجاوز الباراديغم التقليدي ليخلق رؤية أعمق للواقع الفلسطيني.
في غزة، تتجلى مظاهر الصراع بين الحق والباطل، بين العدالة الإلهية والظلم البشري. قال الله تعالى: «وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ» (إبراهيم: 42). هذه الآية تُذكرنا بأن الظلم مهما استمر، فإنه لن يدوم، وأن الله بحكمته يراقب ويُمهل ليحقق العدل في وقته المناسب.
إن فهم أحداث غزة يتطلب منا جميعًا مراجعة باراديغمنا الشخصي والجماعي. علينا أن ننظر إلى القضية بعيون عادلة، متجاوزين التحيزات التي قد تفرضها علينا السياسة أو الإعلام. غزة ليست مجرد أزمة سياسية، بل هي مرآة تعكس كيف تتداخل المأساة الإنسانية مع اختبارات الإيمان. من منظور قرآني وأدبي، غزة هي صوت الحق في مواجهة آلة الباطل، وهي دليل على أن الشعوب المظلومة قادرة على الصمود حتى في أحلك الظروف.
في الختام، يذكّرنا مفهوم الباراديغم بأن الحقائق ليست دائمًا واضحة كما تبدو، وأن على الإنسان أن يسعى لفهم أعمق للأحداث من خلال عدسة العدل والرحمة. أحداث غزة دعوة لنا جميعًا لإعادة ضبط نظرتنا للعالم، ولتذكر أن ما نراه بعيننا ليس إلا جزءًا صغيرًا من حكمة الله الواسعة.

الدستور

مواضيع قد تهمك