د. خلف ياسين الزيود : السردية الأردنية وأجيال اليوم بين الإرث والتكنولوجيا

منذ نشأت الدولة الأردنية، تشكّلت سردية وطنية تروي قصة بناء الوطن، صموده، وتقدّمه وهذه السردية حملت في طياتها مفاهيم الانتماء، الكرامة، والتضحية، وشكلت الوعي الجمعي للأجيال جيلاً بعد جيل. أما اليوم فإننا أمام جيل مختلف هو جيل التكنولوجيا، المولود في قلب الثورات الرقمية المتعاقبة، حيث أصبح يعيش في عالم مفتوح ومتسارع، مما يفرض تحديات على قدرة السردية الوطنية في التواصل معه، لأن السردية الأردنية هوية نُسجت بالصبر وهي ليست مجرد رواية تُحكى، بل هي تجربة واقعية تجسدت في وجدان الأردنيين من خلال نضال الأجداد، تأسيس الدولة، معارك البناء والتطوير، والوقوف في وجه التحديات الإقليمية والدولية. هي قصة الملك المؤسس، والجيش العربي، ومخيمات اللجوء، والتعليم، والنمو الاقتصادي، وهي في ذات الوقت رواية مجتمع متماسك تحكمه قيم العقيدة والعروبة والشهامة والكرم والاحترام.
الجيل الجديد يعيش في عصر المعلومات الفورية، يتعلم من "تيك توك” ويوتيوب”، ويعبّر عن رأيه عبر "تويتر” ولإنستغرام”. يقرأ التاريخ من "ويكيبيديا” ويناقشه عبر المنصات الإلكترونية. هذا الجيل يتمتع بسرعة الوصول إلى المعلومة، لكنه أحياناً يفتقد لعمق الفهم التاريخي والارتباط العاطفي بالسرديات الوطنية وهذا لا يعني أنه جيل غير منتم، بل يعني أن أساليب وطرق الوصول إليه يجب أن تتغير.
وهنا يأتي دور الإعلام والتعليم كجسر بين الماضي والحاضر، حيث أن الإعلام والتعليم هما المفتاحان الرئيسيان لإيصال السردية الأردنية لأجيال التكنولوجيا. فالإعلام التقليدي لم يعد وحده مؤثراً ويجب أن يتطور ليستخدم أدوات العصر من إنتاج محتوى مرئي حديث، إلى الحملات التوعوية عبر المنصات الرقمية. الإعلام قادر على تحويل رموز التاريخ إلى قصص حية تُلهم الشباب وتربطهم بجذورهم بأسلوبهم الخاص.
أما التعليم فهو الأساس لبناء الوعي الوطني، ويجب أن يتجاوز التلقين إلى التفكير النقدي، وأن يدمج الرواية الوطنية مع مهارات العصر ويشجع الطلبة على قراءة تاريخهم بأسلوب تفاعلي، من خلال الأنشطة، والمشاريع، والمنصات الرقمية، بدلًا من الاقتصار على الكتب وحدها. لا بد من تطوير المناهج، وتمكين المعلمين ليكونوا رواة حقيقيين لقصة الوطن.
ان الفجوة بين الأجيال هي غياب الترجمة الثقافية حيث تكمن المشكلة في أن السردية الوطنية ما زالت تُقدّم غالباً بنفس اللغة والأسلوب الذي كان مقبولًا قبل عقود، بينما أدوات الجيل الحالي مختلفة كلياً. يجب أن نترجم الإرث الأردني بلغة العصر، وأن نُعيد رواية القصة بلغة تلامس عقول وقلوب هذا الجيل بلغة الصورة، والفيديو، والتفاعل المباشر.
دور الدولة والمجتمع هو في تجديد السردية لا إلغاؤها والتحدي ليس في "الجيل”، بل في أدوات الخطاب. من الضروري أن تتبنى المؤسسات التعليمية، والثقافية، والإعلامية دوراً فاعلاً في تحديث السردية الأردنية لتكون أكثر شمولاً وتنوعاً، بحيث تشمل إنجازات الشباب، قصص النجاح الحديثة، والتحديات اليومية التي يعيشها المواطن الأردني، دون التخلي عن الرموز التاريخية والثوابت الوطنية.
السردية الأردنية ليست حكاية الماضي فقط، بل مشروع مستمر يُعاد بناؤه مع كل جيل. ومن أجل ألا نفقد الرابط بين الأجيال، لا بد من تحديث اللغة، والمنصات، والأدوات التي ننقل من خلالها قصة الأردن. فالتكنولوجيا ليست تهديداً، بل فرصة ذهبية لإعادة سرد قصة الوطن بطريقة أقرب لقلوب وعقول أبنائه الجدد، بمساعدة إعلام فاعل، وتعليم مُستنير، يعيدان إعادة تشكيل وتجديد السردية الوطنية.