رمزي الغزوي : جوقة الثرثرة الواثقة

صحيح أنني لا أعرف من أين تبنع أنهار الثقة عند بعض رواد مواقع التواصل الاجتماعي في أيامنا هذه منطفئة الألوان، لكني أشعر كغيري من الصامتين، كيف تتدفّق هادرة تلك الثقة، دون أن تفرش على ضفتيها ولو خطاً من الاخضرار. لا أعرف من أين يأتيهم اليقين الأكيد ليمنحهم قدرات التنظير والحديث في كل شيء، بأسلوب فيه نفس يعلو على أنفاس العلماء العارفين.
هؤلاء المتفوقون الواهمون يتسيّدون سنام المشهد ويُلوّحون بأرجلهم. هم يفهمون في كل شيء تقريبا، من قلي العوّامة وهريس البطاطا، إلى تخمير كعكة اليورانيوم الصفراء. ضالعون في شرح ركائز الاقتصاد الياباني وتقاطعاته مع الجارة الحمراء الصين الشعبية. خبراء في علم الطفولة، وخصائص المراهقين، وقادرون على تحديد أسباب تدني مدى الرؤية الأفقية عند تلعثم شروق الشمس في بطون الوديان. متمرسون في تفكيك جديلة الحمض النووي DNA، ويستطيعون مواءمة معادلات الطاقة استناداً إلى النظرية النسبية.
ولن يفوتك أنهم أيضا فقهاء في الشريعة، وساسة يشرحون مآلات الصراع الروسي الأوكراني، وعارفون بمعنى الاستثمار والصناديق السيادية، ويقفون على أسباب توتر العلاقة بين هندوراس والسلفادور، ويربطون العلاقة بين الجنس الآري والأنجلوساكسون، ويعرفون ماذا يُباع في سوق العاصمة الطاجيكية دوشينبه حتى آخر تمثال صدئ للرفيق لينين.
تجلّت في فضاءات مواقع التواصل ظاهرة «وهم التفوق» بكل ضروبها وصخبها. البعض بات لديه منصة يطلق منها ما يشاء، وكيف يشاء، دون أن يعي ما يقول. فرض هذا الفضاء أن يتكلم الجميع، فلا مكان للمتوقفين أو المنصتين، بل كل واحد بات يحاجج ويعلل ويحلل ويحرم ويقترح. وماذا ينقصه كي لا يفعل هذا؟
في المقابل، نرى أصحاب الاختصاص يُحجمون عن إبداء الرأي حتى لو كانوا عارفين، ويطلبون مهلة للتحليل والمراجعة. أما غيرهم، ففتواهم جاهزة غب الطلب، ويقينهم يوافيخ رؤوسهم. وهذا يذكّر بما كتبه برتراند راسل عن الأغبياء الواثقين، وما قاله داروين: إن الجهل غالبا ما يولّد ثقة أكثر من المعرفة.
لذا، لا تستغرب تسيّد التافهين وركوبهم ذرى المشهد. لا تستكثر عدد المصفقين والمسبّحين بسطوتهم. لا تسأل من وضعهم في هذه المكانة. اغسل يديك وارح روحك، فنحن في زمن يعلي من شأن الرغام والخشب.
ولا تتوقع منهم إلا مزيدا من الغرور بعد صمتك. بل لربما يضعونك دون قدرك، وقد قالها الإمام علي منذ قرون: «إذا وضعت أحدا فوق قدره؛ فتوقع منه أن يضعك دون قدرك». نحن في زمن العضلات الهوائية وفهلوة استعراضها، زمن يُقصي الجواهر، ويقبل بالزائف الرخيص. ــ الدستور