أ. د. هاني الضمور : رواية «الطريق»: تأمل إيماني في معنى البقاء وحقيقة الإنسان

حين نقرأ رواية «الطريق» للكاتب كورماك مكارثي من منظور إيماني، نجد أنفسنا أمام نص يتجاوز كونه قصة عن نهاية العالم، ليصبح دعوة للتفكر في حقيقة الإنسان وغاية وجوده، خاصة في أوقات الشدة والابتلاء. في عالم اليوم، حيث تكثر الفتن وتشتد الأزمات، تعود مثل هذه الروايات لتذكرنا بما قاله الله تعالى: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً» [الأنفال: 25]. إن «الطريق» ليست مجرد رحلة نجاة من دمار مادي، بل رحلة روحية، تختبر فيها النفوس وتُمحص القلوب.
في الرواية، الأب وابنه يسيران عبر أرض مقفرة، تتلاشى فيها معالم الحياة. لكن المؤمن يرى في هذا المشهد صورة مصغرة لما قد تصير إليه الدنيا: فانية، زائلة، لا يبقى منها سوى العمل الصالح. يقول الله تعالى: «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ « [الحديد: 20]. الأرض التي وصفها مكارثي، مليئة بالرماد والخراب، تشبه تلك التي ستؤول إليها الدنيا حين ينفخ في الصور، ولا يبقى إلا وجه الله.
لكن التحدي الأكبر في الرواية ليس الجوع أو الخوف، بل كيف يحافظ الإنسان على فطرته النقية، على رحمته وإيمانه، وسط عالم ينكر القيم. وهذا جوهر الامتحان الذي خُلق الإنسان لأجله: «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» [الملك: 2]. الأب في الرواية لا يسعى فقط إلى حماية جسد ابنه، بل إلى صون قلبه من القسوة، إلى أن يزرع فيه الإيمان بأن الخير لا يموت، وأن الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تزول إلا لمن شاء لنفسه الضلال.
«نحن نحمل النار»، يكررها الأب. ومن منظور إيماني، هذه النار قد تكون رمزًا للنور الرباني الذي يهدي القلوب، للحق الذي لا يُطفأ مهما اشتدت الظلمات. يقول الله تعالى: «يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ « [الصف: 8]. إنها النار التي أبقاها إبراهيم عليه السلام مشتعلة في قلبه حين ألقي في النار، والنور الذي سار به موسى في ظلمات البحر، إنها الثبات على الحق حين يضل الناس.
في عالمنا اليوم، نشهد صورًا من الفتن والشدائد، لكنها ليست دائمًا بالحروب والدمار، بل أحيانًا تأتي في صورة غفلة، استغراق في الدنيا، ضعف في الإيمان. والرواية تحذرنا من أن الفساد لا يبدأ دائمًا من الخارج، بل حين يتخلى الإنسان عن مبادئه، حين تصبح النجاة هي الغاية ولو على حساب الدين والأخلاق.
ومع ذلك، لا تخلو الرواية من الأمل، كما لا يخلو الدين من بشارات الفرج. فكما وعد الله تعالى: «فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» [الشرح: 6]. الطفل في الرواية هو رمز للنقاء الذي لم تلوثه الدنيا، مثلما وصف النبي صلى الله عليه وسلم الفطرة السليمة: «كل مولود يولد على الفطرة». إنه المستقبل الذي يحمل بذور الخير، والذي يمكن أن يُبنى عليه إن شاء الله عالم جديد، لا على أنقاض الفساد، بل على أسس من الإيمان والصلاح.
الرواية تطرح علينا سؤالًا إيمانيًا عميقًا: عندما يُبتلى الناس وتُرفع العافية، من يبقى ثابتًا على دينه؟ من يختار طريق الحق على طريق النجاة الموهومة؟ وهذا ما نراه في الحديث الشريف: «يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر». الأب كان يقبض على الجمر، ليورث ابنه نورًا لا ينطفئ.
في النهاية، «الطريق» ليست فقط سردًا لأحداث مروعة، بل دعوة لأن نعود إلى الله، أن نثبت في المحن، وأن ندرك أن الدنيا مهما طالت فإلى زوال، وأن البقاء الحقيقي ليس في هذه الأرض، بل في الآخرة. قال الله تعالى: «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى» [الأعلى: 17].