رمزي الغزوي : العالم بعد انحسار القبضة الأمريكية

عاش العالم طويلاً في ظل الراية الأمريكية، لا حباً في الظل، بل كون البديل كان أكثر ظلمة. لم تكن الهيمنة الأمريكية رحيمة، لكنها كانت مفهومة على الأقل، وقابلة للتفاوض والردع حيناً. أما اليوم، فالراية تسقط من يد العملاق، لا على وقع هزيمة، بل بسبب ملل مدوٍ، وكأن واشنطن ملت من العالم، وقررت تركه يواجه مصيره، حتى لو اشتعل.
في عهد ترمب الثاني، يتضح أن أمريكا لم تعد تريد أن تكون مركز النظام العالمي. لم تعد تنسحب بخجل أو تتراجع بتردد. إنها تقطع الحبال، وتنسف الجسور، وتعيد تعريف القيادة كعبء ينبغي التخلص منه. من حلف الناتو إلى الأمم المتحدة، من اتفاق باريس إلى صندوق النقد، تتصرف واشنطن كمن قرر الانتحار السياسي على مرأى من الجميع، لكنها تريد أن تسحب الآخرين معها إلى الحافة.
لكن في فراغ القوة، يولد شيء آخر. ليس بالضرورة نظاماً أفضل، لكنه على الأقل فرصة. حين يغيب القائد القديم، لا يموت النظام بالضرورة. بل يعاد تشكيله، يختبر تماسكه، وتتاح الفرصة لمن كانوا في الظل ليقولوا كلمتهم.
القارة الأوروبية بدأت تملأ الفراغ، ليس من موقع القوة، بل من موقع الوعي. اليابان، الصين، دول الجنوب العالمي، كلها تتحرك ضمن منطق جديد: أن لا أحد سيحمي أحداً، وأن كل طرف يجب أن يجد أدواته للتوازن. الصناديق الإقليمية، اتفاقات المقايضة، الأطر البديلة، كل ذلك لا يعكس فقط تنوع الحلول، بل تنوع مصادر الشرعية.
حتى البنك الدولي لم يعد رهينة القرار الامريكي. أكثر من نصف تمويله يأتي الآن من أوروبا. وصندوق النقد يرى ولادة بدائل ناعمة، تحرر الاقتصاد العالمي تدريجياً من الدولار. نحن أمام واقع لا تهيمن فيه دولة واحدة، بل تتشارك القوى في مسؤولية ثقيلة: إدارة العالم دون وصاية.
يبقى السؤال: هل يستطيع العالم أن ينسج نظاماً جديداً من خيوط متناثرة؟ هل يمكن أن تقوم شراكة بلا راعٍٍ واحد؟ أم أننا، في جوهرنا العميق، لا نزال نبحث عن إمبراطورية، فقط بوجه آخر؟ ــ الدستور