د. عدلي فندح : ماء الحياة في قبضة الذكاء

على حواف الصحراء، حيث يخاصم الغيم الحقول، وتُسمع أنين الأرض تحت وطأة العطش، يقف الأردن في معركة مصيرية ضد الزمن والمناخ. بين يديه مشروع طموح، موّله البنك الدولي بزهاء 250 مليون دولار، يحمل على أكتافه رجاء الناس بأن تعود الحياة إلى جداولهم وبيوتهم. مشروع كفاءة قطاع المياه ليس مجرد ضخ أنابيب وترميم شبكات، بل هو وعد بالمستقبل، وعهد جديد مع الأرض والإنسان.
إنها معركة في وطن لا يقطر فيه الماء إلا نزرًا يسيرًا؛ فحصة الفرد السنوية لا تتعدى 84 مترًا مكعبًا، بينما ينادي الخط الأحمر العالمي بحد أدنى مقداره 500 متر مكعب. في هذا الوطن العطش، تفقد نصف المياه قبل أن تصل إلى أصحابها؛ تتسلل من بين شقوق الشبكات المهترئة أو تضيع حيث لا تُحصى ولا تُحاسب.
ومع ذلك، ينبض الأمل. المشروع المرتقب يعد بتحسين حياة 1.6 مليون إنسان، من خلال مد شرايين جديدة للمياه تحت المدن والقرى، واستخدام طاقة الشمس بدلاً من التكاليف الباهظة لضخ الماء عبر السهول والجبال، بل ويَعِد بتوفير عشرة ملايين متر مكعب من المياه سنويًا، تلك التي ستُكتب بها سطور الحياة من جديد.
لكن المعركة ليست على جبهات المشاريع فقط، بل تمتد إلى صميم فلسفة توزيع الماء بين البشر والنبات والحجر. اليوم، تلتهم الزراعة أكثر من نصف ما يجود به باطن الأرض والغيوم الشحيحة، فيما تقنع الصناعة والسياحة الفتية بفتات لا يتجاوز 6%، ويتقاسم الناس في بيوتهم ما تبقى. الزراعة، التي تحن إلى أيام الخصب، تستهلك 50% إلى 52% من المياه، بينما تساهم بأقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي. كيف لعقلٍ رشيد أن يقبل أن تبذر المياه الثمينة لري بندورة وخيار، وحتى موز ونخيل يُصدران إلى الأسواق الأجنبية، بينما ظمأ الوطن يشتد؟
ليس هذا فحسب، بل يُنتظر أن تتناقص الموارد المائية بنسبة 30% بحلول عام 2040، فيما يتزايد عدد الأفواه العطشى. مياه لا تكفي الحاضر، فكيف بالمستقبل؟
هنا، تلمع أمام ناظرينا فرصة التحول من البكاء على الأطلال إلى نسج الغد بأيدٍ ذكية. فالتقنيات الحديثة تحمل مفاتيح الخلاص: أنظمة استشعار ذكية تراقب كل قطرة، تكتشف التسربات وتبلغ عنها قبل أن تهرب إلى جوف الأرض. ذكاء اصطناعي يُحلل الأرقام، يتنبأ بالأزمات قبل أن تقع، ويهندس خطط توزيع مرنة، تستجيب لنبض الأرض وحرارة السماء.
وللزراعة، حديث آخر مع الذكاء. لم يعد الري الأعمى مقبولًا. الآن، تخاطب الأرض الأقمار الصناعية، وتوشوشها عن حاجتها للماء، فتأتيها الكمية المضبوطة بدقة لا تعرفها الأقدام ولا الأعين. الري بالتنقيط الذكي، الذي يعرف متى وكيف وأين يسقي، يصبح فارس الحقول الجديد.
وفي قلب البيوت، تنبض العدادات الذكية، تقيس، تحذر، وتغري بالترشيد عبر مكافآت رقمية، تُدخل ثقافة الماء إلى تفاصيل الحياة اليومية، وتجعل من كل فرد جنديًا في معركة البقاء.
ولا يتوقف الحلم عند هذا الحد. فمياه الاستحمام والغسيل تُصفى وتُعاد إلى الحياة من جديد، لتسقي حدائق صغيرة أو تنظف أرصفة المدن. مضخات الماء تتنفس تحت أجنحة الشمس، تخفف من أعباء الكلفة وترد الجميل للطبيعة.
في حضن الابتكار، تنمو حاضنات تحتضن عقولًا فتية تبتكر طائرات صغيرة، تحلق فوق المزارع والشبكات، تراقب وتحلل وتُصلح. وفي جيوب كل مواطن، تطبيق ذكي يهمس له كل صباح: «كم أنفقت من الماء؟ وكيف ترشده اليوم؟».
هكذا، لا تعود أزمة المياه لعنة جغرافيا ولا قدرًا مكتوبًا، بل تصبح قصة إرادة وذكاء. بقوة الأدوات الحديثة، بحكمة السياسات الرشيدة، وبنبض القلب المؤمن بالمستقبل، يستطيع الأردن أن يعيد رسم مصيره المائي، ويمنح الأجيال القادمة حقها في الشرب والنماء والأمل.