أ. د. هاني الضمور : نظرية الاقتصاد اليوسفي: حين يتحرر الرغيف من التبعية

في زمن تتصدّر فيه الأزمات الغذائية المشهد العالمي، وتنهار سلاسل الإمداد عند أول اضطراب سياسي أو مناخي، تعود ذاكرة التاريخ لتستدعي نموذجًا فريدًا، لم يأتِ من بين دفاتر الاقتصاد الحديث، بل من قلب التجربة النبوية التي أدار فيها يوسف عليه السلام مورد الأرض والناس خلال سبع سنين من الرخاء، تهيئةً لسبع شداد. لم تكن تلك الخطة مجرد استجابة طارئة، بل كانت تأسيسًا لما يمكن تسميته اليوم بنظرية اقتصادية مكتملة العناصر، تحاكي فلسفة الاستباق، وتوازن بين الوفرة والتقشف، وتعتمد على قيم الحوكمة الرشيدة والإدارة الأخلاقية للثروة.
الاقتصاد اليوسفي هو إطار فكري يُستمد من تلك التجربة، ويتجاوز حدود الحكاية القرآنية ليضع أسسًا علمية لنموذج اقتصادي بديل، قادر على تحقيق السيادة الغذائية والاستقرار المستدام. في هذا النموذج لا تهيمن السوق على الدولة، ولا يُختزل الإنسان إلى مستهلك، بل يُعاد ترتيب العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وبين الأرض ومن يزرعها، وبين الرغيف ومن يقرّر مصيره.
تنطلق هذه النظرية من مبدأ جوهري يرى في التخزين الاستراتيجي فعلًا حضاريًا لا مجرد إجراء تقني. التخزين ليس تراكمًا عشوائيًا للسلع، بل استثمار واعٍ في المستقبل، يُراعي أن الفائض في زمن الوفرة ليس للترف، بل هو ضمانة للبقاء حين ينقلب المناخ أو السوق أو التحالفات. والهدف ليس فقط حماية الناس من الجوع، بل من التبعية، لأن من لا يملك قوته، لا يملك قراره.
أما السيادة الزراعية، فيُعاد تعريفها ضمن هذا النموذج باعتبارها الركيزة الأولى للاستقلال الوطني. فحين تتحول الدول المنتجة إلى دول مستوردة، وتُهمل الأرض لصالح الأسواق، يفقد القرار الاقتصادي عمقه الأخلاقي والاستراتيجي معًا. الزراعة هنا ليست قطاعًا هامشيًا، بل قضية أمن قومي. وكل بذرة تُزرع هي مقاومة صامتة، وكل فلاح يُمكَّن هو حارس لكرامة الأمة.
ولا تنفصل هذه الرؤية عن البعد القيمي، فالأخلاق في الاقتصاد اليوسفي ليست تجميلًا للسياسات، بل عنصرًا مكوّنًا فيها. الأمانة التي وصف بها يوسف نفسه لم تكن صفة شخصية، بل شرطًا لممارسة السلطة الاقتصادية. النزاهة في إدارة المخزون، والعدالة في التوزيع، والكفاءة في اتخاذ القرار، تشكل أعمدة هذا النموذج الذي يدمج بين العقل والقيم، ويقاوم الانحراف الإداري والفساد المؤسساتي، من جذوره لا من أعراضه.
ولا تُبنى هذه النظرية على أفكار مجردة، بل على منهج عملي واضح. فالدولة، بحسب هذا النموذج، ليست كيانًا محايدًا يُراقب السوق، بل هي فاعل رئيسي يُوجه، ويُخطط، ويُوازن. مسؤوليتها لا تقف عند حماية السوق من الانهيار، بل في حماية الإنسان من الجوع، والفلاح من الإقصاء، والأرض من الإهمال. وهي مسؤولة عن إدارة زمن الوفرة بالحكمة، لا بالاستنزاف، وعن تحويل فائض الإنتاج إلى أمان استراتيجي لا إلى فائض في أرباح نخبوية.
إن هذا النموذج لا يُراد له فقط أن يُطبق في لحظة أزمة، بل أن يُعتمد كأساس دائم لاقتصاد يقوده الضمير، لا الغرائز. فهو لا ينكر السوق، لكنه لا يمنحها سلطة مطلقة، ولا يعادي التجارة، لكنه لا يسمح لها بالتحكم في حاجات الشعوب الأساسية. إنه اقتصاد يعيد العلاقة الصحية بين الإنسان والأرض، ويحرر التنمية من التبعية، والسلطة من الفساد، والغذاء من منطق الهيمنة.
وحين نسأل عن أهداف هذه النظرية، فهي لا تكتفي بتحقيق الاكتفاء الغذائي كمؤشر اقتصادي، بل تسعى إلى ترسيخ العدالة الاجتماعية في توزيع الموارد، وتقوية مرونة الدول في مواجهة الكوارث، وبناء ثقافة إنتاجية تتجاوز وهم النمو الرقمي نحو تنمية حقيقية مستندة إلى القدرة الذاتية. كل رغيف يُنتَج محليًا هو إعلان للسيادة، وكل حقل يُزرع بقرار وطني هو استعادة لهيبة القرار الاقتصادي.
وفي النهاية، ليس «الاقتصاد اليوسفي» مجرد اجتهاد في قراءة الماضي، بل هو قراءة متجددة للحاضر، واستشراف صادق للمستقبل. إنه دعوة لأنسنة الاقتصاد، وإعادة تعريف الثروة بوصفها أمانة، والسلطة بوصفها مسؤولية، والرغيف بوصفه مفتاحًا للكرامة. وفي عالم تهزه الأزمات، وتضطرب فيه الحسابات، تبدو العودة إلى هذه النظرية ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة سياسية واقتصادية وأخلاقية، تؤكد أن الرغيف لا يُدار من البورصة، بل من الأرض ومن القلب.