د. محمد العرب : استعمار الخوارزميات للعقل البشري

لم تعد الخوارزميات أدوات صامتة تُستخدم لتحسين محركات البحث أو ترشيح مقاطع الفيديو، بل أصبحت فاعلاً سياسياً واقتصادياً يشاركنا رسم خريطة العالم الجديد، دون أن يظهر على طاولة المفاوضات أو يُنتخب في صناديق الاقتراع .!
الحديث عن الخوارزميات باعتبارها وسيلة تقنية بات تعبيراً قاصراً وخادعاً ، نحن الآن أمام كائن رقمي يتغذى على السلوك البشري، ويعيد توجيهه بطريقة أكثر فعالية مما تفعل المدارس، والدساتير، وأجهزة الأمن مجتمعة.
في كل مرة ننقر على إعجاب، نكتب تعليقاً، أو نُعيد مشاركة صورة، نحن نُطعم الخوارزمية الشرهة ونجهزها لما تفعله بالمقابل ، ليس مجرد التعلُّم بل التحكم !
لقد تجاوزت الخوارزميات مرحلة التعلّم منّا، وصارت تُعلمنا وتدلّنا على ما نراه، متى نراه، ولماذا يجب أن نراه، ومن نثق به، ومن نكرهه، ومن نُصوّت له، وما نشتريه، ومتى نشعر بالرضا أو الغضب ، إنها تعيد برمجة البشر ليشبهوا ما تتوقعه، لا ما يريدونه.
هذا التطور لم يكن عشوائياً يا سادة ، لقد صُممت الخوارزميات الكبرى لتحابي التكرار لا الإبداع، التشابه لا التنوع، السلوك المألوف لا المنفلت ولهذا فإنها تُعيد تدوير المحتوى الذي يثير التفاعل، ولو كان تافهاً أو خطيراً ، ولأن أكثر ما يُثير التفاعل هو الغضب، والانقسام، والهوية الضيقة، فإن الخوارزميات أصبحت مولّداً دائماً للاحتقان الاجتماعي والسياسي ، إنها لا تفضّل الحقيقة ولا الأكاذيب، بل ما يُبقيك متصلاً بالشاشة ومن أجل ذلك تنحاز إلى الصدمة، والإثارة، والسرديات المبسطة التي تُخدر الدماغ وتُغذي الانفعالات.
اقتصادياً، أدى هذا المنطق الخوارزمي إلى تسليع العقل البشري نفسه. فنحن لم نعد المستهلكين فقط، بل أصبحنا المنتج الذي يُباع ويُشترى. تُباع بياناتنا في سوق مفتوحة لأطراف كثيرة: شركات الإعلانات، الأحزاب السياسية، أجهزة المخابرات، وسماسرة الأسواق السوداء. وكلما ازدادت دقة الخوارزميات في فهم دوافعنا، كلما ارتفعت قيمتنا في بورصة السيطرة. وحين تُصبح الإرادة البشرية قابلة للتنبؤ، فإن حرية الاختيار تصبح وهماً لطيفاً أشبه بديكور قديم في مسرحية تُدار من خلف الكواليس.
أما سياسياً ، فقد دخلنا عهد الديمقراطية الخوارزمية حيث يتم توجيه الرأي العام لا عبر الإقناع العقلي، بل عبر الإغراق العاطفي الممنهج حيث اصبحت الحملات الانتخابية تتحالف مع الشركات الرقمية الكبرى، لتصميم رسائل موجهة بدقة إلى الأفراد، بناءً على مشاعرهم ونقاط ضعفهم، لا على آرائهم المعلنة وقناعتهم وهكذا، يصبح التصويت نتيجة هندسية أكثر منه فعلاً حرّاً ، والأسوأ أن كثيراً من الناخبين يعتقدون أن اختياراتهم نابعة من تفكيرهم، بينما هي مجرد استجابة لموجة خفية صنعتها خوارزميات تعرفهم أكثر مما يعرفون أنفسهم.
هذا كله يحدث في سياق عالمي يفتقد للرقابة الحقيقية على الذكاء الاصطناعي، وتحديداً الخوارزميات التجارية التي تدير المنصات الكبرى. فلا يوجد قانون دولي ملزم، ولا توجد جهة رقابية فوق وطنية تُحاسب هذه المنظومات.
ومن هنا تتشكّل ملامح نظام عالمي جديد، لا تُدار فيه الثروات فقط عبر الخوارزميات، بل تُصاغ فيه العقول كذلك. لم تعد القوة الناعمة تقتصر على الثقافة والإعلام، بل أصبحت خوارزمية تتسلل إلى اللاوعي الجمعي، وتعيد برمجة العادات والمعتقدات والهويات. إنها نوع من الاستعمار الرقمي الذي لا يحتاج إلى جيوش، ولا إلى أعلام، بل إلى شفرة ذكية تعرف متى تقترح عليك أغنية، ومتى تُثيرك بمقطع، ومتى تُحرضك على كراهية الآخر، وكل ذلك وأنت تبتسم وتظن أنك حر.
المشكلة أن هذا التحول لا يحدث بضجيج، بل بانسيابية. فالبشر يحبون الراحة، والخوارزميات توفر الراحة. يحبون الانتماء، والخوارزميات تمنحهم انتماءً وهمياً إلى مجتمعات مصطنعة تشبههم في الشكل والهوى. يحبون أن يشعروا بأنهم على صواب، والخوارزميات لا تُخالفهم، بل تفتح لهم نوافذ تؤكد كل ظنونهم. وهكذا، تُصبح الخوارزمية شريكاً في الوعي شريكاً متطفلاً، لكنه محبوب.
لكن إلى أين يقودنا هذا المسار؟ إلى عالم لا مكان فيه للاختلاف الحقيقي، ولا للمفاجأة، ولا للتمرد الإبداعي. إلى سوق لا يربح فيه من يُبدع، بل من يُكرر ما يثير، ولو كان فارغاً أو ساماً ، إلى ديمقراطية شكلية تُدار من خلف الستار بخوارزميات تعرف مسبقاً كيف سيصوّت الناخب، وماذا سيحب، ومتى سينفجر. إلى اقتصاد لا تُحدد قيمته بكمية الإنتاج أو الابتكار، بل بكمية البيانات المُستخرجة من سلوك الإنسان وتحليلها وإعادة توجيهها ضده.
والأخطر من ذلك، أننا لا نشعر بالخطر. لأن الخطر، حين يأتي في شكل تطبيق جميل، وواجهة سهلة، وتجربة ممتعة، يبدو وكأنه تقدم، لا تهديد. ولذلك فإن معركة البشرية الحقيقية في العقود القادمة لن تكون مع الحروب التقليدية، بل مع هذا الكائن الشفاف الذي يعيش بيننا في جيوبنا، وفي غرف نومنا، وفي أعماق وعينا الكائن الذي لا وجه له، ولا صوت، لكنه يكتب مصيرنا سطراً سطراً ، ونحن نظنه يرفّه عنا.
ربما آن الأوان لأن نسأل: هل نمتلك خريطة الطريق للخروج من قبضة الخوارزميات؟ وهل نملك الإرادة لقول (لا) لتلك المنظومات التي تعيد تشكيلنا باسم الراحة والذكاء؟ أم أننا سنواصل الانزلاق الطوعي إلى عالم لا نُفكر فيه، بل يُفكّر بنا؟ الجواب ليس عند الخوارزمية بل عندك.