رمزي الغزوي : العبودية الرقمية

تغيرت أشكال السلطة على مر العصور، لكن جوهرها ظل واحدًا: السيطرة على الناس واستغلالهم. في الماضي، كانت الممالك تُحكم بالحديد والنار، حيث يتحكم الملوك والنبلاء في حياة رعاياهم. ثم جاءت أشكال جديدة للدولة، فانتقل البشر من خانة «الرعايا» إلى «المواطنين»، وأصبحت لهم حقوق تحميهم. لكننا اليوم، في عصر التكنولوجيا، نشهد ولادة شكل جديد من الإقطاعية، حيث لم نعد مواطنين أحرارًا تمامًا، بل أصبحنا سجناء في عالم تتحكم فيه الخوارزميات، وتُباع بياناتنا كما تُباع السلع في الأسواق.
في ظل هذا «الإقطاع الرقمي»، لم تعد الأرض أو الذهب هما رأس المال الحقيقي، بل البيانات. شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل «جوجل»، «ميتا»، «أمازون»، و»أبل»، تتحكم في حياتنا الرقمية، تمامًا كما كان النبلاء يتحكمون في أراضي الفلاحين. نحن نمنحهم بياناتنا بلا مقابل، وهم يستغلونها للتأثير علينا، وتوجيه قراراتنا، وتحقيق أرباح ضخمة.
بحسب تقرير صادر عن مؤسسة «بروبابليكا»، كان «فيسبوك» قبل بضع سنوات يجمع 52,000 نقطة بيانات عن كل مستخدم. اليوم، هذا الرقم بلا شك تضاعف. ما يعني أن هذه المنصات لا تراقبنا فحسب، بل تعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. إنها تدرس سلوكياتنا، تحدد اهتماماتنا، بل وتتوقع قراراتنا قبل أن نتخذها. هذه المعلومات ليست بريئة، بل تُستخدم لتعديل تجاربنا الرقمية، وجعلنا نقضي وقتًا أطول على المنصات، وكل دقيقة إضافية تعني المزيد من الأرباح لهم، والمزيد من التلاعب بنا.
فضيحة «فيسبوك-كامبريدج أناليتيكا» عام 2018 لم تكن سوى غيض من فيض. أظهرت كيف استُخدمت البيانات في التأثير على الانتخابات، وتوجيه الرأي العام بطرق خفية، دون علم المستخدمين. ولكن الحقيقة الأخطر ليست في الفضائح الفردية، بل في حقيقة أن نموذج العمل ذاته يعتمد على استغلال بياناتنا لتحقيق مكاسب ضخمة، دون أي التزام أخلاقي تجاهنا.
لقد وقّعنا، دون وعي، على عقود رقمية تجعلنا مجرد بيادق في لعبة ضخمة. كلما استخدمنا هذه المنصات، فإننا نمنحها القوة للسيطرة على قراراتنا، وتوجيه سلوكنا، واستغلالنا لتحقيق أرباحهم. ومع ذلك، يظل الكثير منا غافلين عن الثمن الحقيقي الذي ندفعه. فهل يمكننا استعادة سيطرتنا على حياتنا الرقمية؟
كما قال خبير الأمن الرقمي بروس شناير: «إذا كان هناك شيء مجاني، فأنت لست العميل، بل السلعة». والسؤال الذي يجب أن نطرحه اليوم: هل نحن مستعدون للاستمرار في هذه العبودية الرقمية، أم أننا سنطالب بحقوقنا في الخصوصية والحرية؟
ــ الدستور