أ. د. محمد عبده حتاملة : هجرة العبرانيين من مصر

الحلقة السادسة
وعند الحديث عن هجرة العبرانيين من مصر، أو ربما طردهم، ترد إشارة إلى أن بعض العبرانيين قد تخلفوا فيها، كما خرج معهم «اللفيف» (خروج 12/38)، واللفيف إشارة إلى جماعات ليست متجانسة عرقيا ولا تنتمي إلى العبرانيين، ولكنهم على أي حال أصبحوا جزء لا يتجزأ من الجماعة العبرانية.
وبعد التغلغل العبراني على أرض كنعان، امتزج العبرانيون بالكنعانيين وتزاوجوا معهم. ولكن الحظر التوراتي على الزواج من الأجانب، وعلى ذرية مثل هذا الزواج، لا ينطبق على الأدوميين أو المصريين، وإنما ينطبق على العمونيين والمؤابيين وحسب. «لا يدخل عموني ولا مؤابي في جماعة الرب حتى الجيل العاشر، لا يدخل منهم أحد في جماعة الرب إلى الأبد... لا تكره أدوميا لأنه أخوك، لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه. الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث يدخلون منهم في جماعة الرب» (تثنية 23/3، 7-8). فالحظر هنا ليس مطلقا ولا ضيقا. ومع هذا، فإن ثمة إشارات إلى أن الغريب ليس مقبولا قبولا كاملا بأي حال (تثنية 14/21). وبذا، يمكننا القول إن رؤية العبرانيين لهويتهم وتعريفهم لها كان مرنا منفتحا إلى حد ما.
أما على مستوى الممارسة، فقد كانت الهوية العبرانية منفتحة تماما، فعند التهجير إلى بابل، كان العبرانيون يشكلون جماعة شبة قبلية تتحدث العبرية، كما كان لهم نسقهم الديني المقصور عليهم. ومع هذا، كانت هذه الجماعة مندمجة إلى حد كبير في المحيط الثقافي والسياسي الذي وجدت فيه، متأثرة به أكثر من تأثيرها فيه. فالعبرانيون الذين تسللوا إلى كنعان كانوا قد أحضروا معهم من مصر (وأرض مدين) فكرة الإله الواحد. ولكن اليهودية (كنسق ديني متماسك) لم تكن، مع هذا، قد اكتمل تكوينها بعد، واستوعبت عناصر كثيرة من عبادات الخصب الكنعانية. كما أن (يهوه) ذاته لم يكن قد اصطبغ بعد بصبغة كنعانية. وتبنى العبرانيون كثيرا من أعياد الكنعانيين وعباداتهم، واكتسبوا الثقافة الكنعانية، وتحدثوا بإحدى اللهجات أو اللغات الكنعانية، وهي اللهجة أو اللغة التي أصبحت تدعى: (العبرية).
وحينما تم تأسيس المملكة المتحدة في عهد داود وسليمان، لم يتوقف دخول العناصر الأجنبية، وقد كانت سيرة داود هي سيرة تحالفه مع الفلستيين، الذين عاشوا في الساحل الجنوبي من بلاد كنعان (ساحل سوريا، بين غزة من الجنوب ويافا من الشمال) في القرن الثاني عشر قبل الميلاد، واطلق اسمهم على هذه المنطقة، ثم تكره لهم، ثم تحالفه مع دويلات أخرى مجاورة، وهكذا. وحينما فتح داود القدس التي كانت في يد اليبوسيين (وهم بطن من بطون كنعان)، تم استيعابهم في الجماعة العبرانية حسبما يقال.
وبعد موت سليمان، انحلت المملكة المتحدة إلى دويلتين عبرانيتين: المملكة الشمالية، والمملكة الجنوبية. وكان لكل منهما مركز ديني مستقل عن الأخرى. ومسالة المركز الديني في العبادات القربانية القديمة، التي تدور حول المعبد، مسألة شديدة الأهمية، فالمعبد هو مصدر الشرعية السياسية، ومصدر الدخل الأساسي للدولة، وهو في نهاية الأمر مصدر الهوية القومية وأساسها.
وقد كان ملوك الدويلتين العبرانيتين يتزوجون، كنوع من التحالفات السياسية، من أميرات أجنبيات كن يحضرن آلهتهن معهن، ويقمن المعابد لهم، وينشرون العبادات الخاصة بهم بين الأثرياء وفي البلاط، الأمر الذي كان يزيد التعددية الدينية وعدم التجانس القومي. والزواج من أجنبيات هو عادة ترجع إلى سليمان الذي لم تكن أمه عبرانية.
وهناك رأي يذهب إلى أن العبرانيين كانوا يتحدثون في تلك المرحلة بلهجات مختلفة، وبالتالي لم تكن هناك هوية لغوية موحدة، وكانت الدويلتان اليهوديتان في حالة حرب وصراع دائمين، كما كانتا تستعينان بالدول والدويلات الأجنبية في صراعهما (الواحدة ضد الأخرى). ــ الدستور