د. محمد رسول الطراونة : السرطان من المسافة صفر عندما تخون الخلايا

إهداء جميل سعدت به كثيراً وكأن من أهداني إياه يعلم أني أعشق القراءة ويعلم أيضا أني كنت الاول في مسابقات القراءة (المطالعة) التي كانت تجريها وزارة التربية والتعليم في السبعينيات من القرن الماضي، حين كان الكتاب كما قال المتنبي «خير جليس في الزمان».
أتحدث عن كتاب جديد للزميل الدكتور عاصم منصور «السرطان من المسافة صفر عندما تخون الخلايا» الذي عندما أقرا له أو أستمع لحديثه أحتار في تصنيفه بين الطبيب والاديب والمؤرخ، فقد جمع بين الثلاثة وبلا أدنى شك فقد أبدع فيها جميعا. كنت قد وعدته بقراءة الكتاب الذي يقع في حوالي 700 صفحة ويضم ثلاثة وعشرين فصلا خلال أول سفرة لي في الطائرة كما هي عادتي أستمتع بالقراءة اثناء السفر جوا، ولكن وجدت نفسي مشدودا لقراءته مبكرا، وهذا ما حصل.
اليوم أتممت قرأته من «الجلدة للجلدة » وقرأت ما على الغلاف أيضا. قرأته جالسا خلف المكتب، وقرأته وأنا على الاريكة (الصوفة) مستلقيا على ظهري وثانيا ركبتي، وقرأته في غرفة النوم منسدحا على بطني وأحيانا (مقرمزا). استمتعت في كل أوضاع القراءة، وأعدت قراءة بعض فصوله أكثر من مرة. توقفت عند توثيقه لتجربته الشخصية مع السرطان بمرض جده، توقفت لاني عشت نفس التجربة مع أقارب لي من الدرجة الاولى وكنت لهم المرجع الطبي، فعندما تكون طبيب العائلة، عليك أن تحمل ثقل مسؤولية الافصاح عن «ذاك المرض»، إنه السرطان الذي اتحفنا الكاتب في الحديث عنه من المسافة صفر.
قرأت القصص الانسانية التي وثقها الكاتب باسلوبه الخاص لمرضى سرطان خاضوا وعائلاتهم تجارب ملهمة في رحلتهم الطويلة والشاقة مع السرطان، يستنبط منها القارئ العبر والدروس، مرضى حولوا المعاناة والالم الى قصص الهام وصبر على الابتلاء، عاشوا مع الامل في مواجهة الالم، قصص فيها فرص لنا لمراجعة النفس.
يطل علينا الكتاب في وقت يشهد فيه الاردن تزايدا لحالات الاصابة بمرض السرطان وتتزايد فيه عوامل الخطورة للاصابة بهذا المرض، وعلى رأس القائمة الطويلة لعوامل الخطورة يتربع التدخين، المسؤول تقريبا عن نصف السرطانات المنتشرة في الاردن، ما جعله طامة الاردنيين الكبرى، فقد افرد له الكاتب فصلا كاملا: من أين جاء التدخين؟ وكيف انتقل، وعن محاولات الدكتور (هيل) ايجاد علاقة سببية بينه وبين سرطان الرئة في بريطانيا.
بالمناسبة، وبالرغم من كوني مدخنًا سابقًا لثلاثين عامًا، عرفت من هذا الكتاب ان سرطان الرئة تزيد نسبته عند المدخنين بثماني عشرة مرة مما هو عند غيرالمدخنين.
اخذنا الكاتب ايضا الى سبل الاقلاع عن تعاطي التبغ وفضل النتائج عند الجمع بين العلاجات البديلة للنيكوتين والتدخلات السلوكية حيث تصل نسب النجاح الى 30%.
كنت أقرأ الكتاب وأجد نفسي أقرأ مرجعًا طبيًا كُتب بأسلوب أدبي شيق. قرأت رسائل جمة في أصول فن التوعية الصحية وهنا أتفق مع الزميل الدكتور عاصم فيما ذهب اليه عندما كتب «يجب أن تصاغ رسائلنا الصحية بطريقة مفهومة لايصال رسالة واضحة» نعم صدقت القول، غالبا ما تتسم رسائل التوعية الصحية بالجمود والتعقيد وقد يشوبها بعض التناقضات، ما يضع المتلقي في حيرة من أمره، لا بل يغض البصر ويسد السمع عن رسائلنا. فما أحوجنا نحن معشر الاطباء الى صقل مهاراتنا في فن الاتصال والتواصل مع جميع المرضى وليس مرضى السرطان فقط.
نعم، هذا الكتاب ليس دليلًا طبيًا بحتًا، بل هو (منتج) يأخذك في رحلة معرفية معلوماتية قصصية شيقة تهدف الى تقريبك بلغة سلسة وبسيطه من فهم هذا المرض المعقد.
الكتاب بلا أدنى شك، يعتبر إضافة قيمة للمكتبة الطبية العربية، ولعلها مناسبة أن أهمس في أذن الزميل العزيز–يا حبذا ترجمته الى اللغة الانجليزية–ليتعرف القارئ على المرض من أقرب نقطة ممكنة. إذ يتميز الكتاب باسلوب سهل ومبسط مما يجعله مناسبا لجميع القراء، سواء كانوا متخصصين في المجال الطبي او أفرادا عاديين يرغبون في فهم المرض.
يرى الدكتور عاصم وفي كثير من فصول الكتاب أن السرطان ليس مجرد مرض خبيث ولعين لا يميز بين صغير وكبير، او غني وفقير، او حاكم ومحكوم، بل هو ظاهرة معقدة تقودها خلايا سمتها التمرد و خيانة المستضيف، ظاهرة تمس العديد من جوانب حياة من يبتلى به: الجسدية والنفسية، الاجتماعية والاقتصادية، وحتى الفلسفية والوجودية والروحانية.
كان الكاتب في كثير من مواقع الكتاب يبعث برسائل أمل وتفاؤل من خلال تأكيده أن التقدم العلمي والطبي المستمر سواء على مستوى التشخيص او العلاج يقربنا من فهم هذا المرض المعقد وأن التغلب علية ليس بالامر المستحيل.
حتى وإن كثرت صفحات الكتاب، إلا أنها لا تكفي لما يمكن أن يدلي به الكاتب خلال رحلة طويلة في مجال رعاية مرضى السرطان على مدار ربع قرن تقريبا، ولكنه يضع رأيه فيما يحدث من تطور تكنولوجي طال مختلف مناحي الحياة، ومنها علاج «السرطان».
الكاتب أكد على أنسنة مهنة الطب، ومن معرفتي الشخصية بالكاتب لعقدين ونيف، ومن خلال عضويتي في البرنامج الاردني لسرطان الثدي، ممن وصفهم بـ"الجنود المجهولين» عند تأسيس هذا البرنامج الذي اعتبره قصة نجاح أردنية، أرى أنه خير من أنسن المهنة وغير اسلوب التعامل مع مريض السرطان، فقد ركز على أهمية أن يكون الطبيب إنسانا قبل أن يمسك سماعته، او يكتب وصفته، بل جعل الكلمة الطيبة وعبارات التشجيع وإظهار القوة بداية للعلاج.
خاتمة الكلام، نعم أخي دكتور عاصم، كما تخون الخلايا، يخون بني البشر، الخلايا تخون لتتطور بشكل غير مرغوب فيه، والبشر تخون العشرة والخبز والملح والصداقة والانسانية و... و... وبلا سبب.
* أمين عام المجلس الصحي العالي السابق