أ.د. وفاء عوني الخضراء تكتب : اقتصاد التكافل .. من التنافس الى التكامل

في عالمٍ يُثقل كاهله التفاوت الاقتصادي وشُحّ الموارد، باتت الحاجة مُلحّة لنموذج اقتصادي لا يعتمد على المنافسة الشرسة بقدر ما يُعزز قيم التكافل والابتكار والاستدامة.
هذه ليست مجرد أفكار نظرية، بل هي مقاربة عملية لتجربتي مع أصحاب العلاقة في المحافظات. وستكون قادرة على تحويل المجتمعات ذات الموارد المحدودة إلى بيئات اقتصادية مزدهرة وقادرة على الصمود والاستدامة.
فكيف يمكننا بناء اقتصادٍ تكافلي يُحقق التنمية دون أن يخلق تنافسًا شرسًا يُمزق النسيج المجتمعي حول المكاسب؟
المجتمعات ذات الموارد المحدودة ليست محكومًا عليها بالتبعية والمعاناة، بل تمتلك كنوزًا غير مستغلة يمكن توظيفها بذكاء. في الأردن، لماذا لا تُستغل المياه المعالجة في مشاريع زراعية مُبتكرة؟ لماذا لا يُعاد تدوير النفايات العضوية بشكل واسع لإنتاج أسمدة طبيعية تدعم الزراعة المحلية؟ مُساهِمةً في خلق وظائف محلية والحفاظ على الحرف التقليدية، لماذا لا يُحوّل صوف الأغنام والماعز إلى خيط أو منتجات فنية مستدامة تُباع بأسعار تنافسية في الأسواق العالمية حيث تحصل على الدعم اللازم والتسويق السليم؟
مثل هذه المبادرات تعكس كيف يمكن للموارد المتاحة أن تُعاد صياغتها وإنتاجها لتصبح روافع لاقتصاد قوي ومستدام داخل المجتمعات الأكثر حاجة لاقتصاد التكافل والتمكين المواردي.
أحد أكبر الأخطاء التي وقع فيها الاقتصاد التقليدي هو تعزيزه لمفهوم التنافس الذي يُنتج (رابحين) وقائمة طويلة من (الخاسرين).
في حين أن اقتصاد التكافل يقوم على فكرة "نحن جميعًا نربح". لا يُعقل أن تتحول الموارد المحدودة إلى سببٍ في خلق نزاعات داخل المجتمعات، بل يجب أن تكون مصدرًا لتعزيز التكافل وتقوية الروابط الاجتماعية وشعارنا يجب أن يكون من التنافس إلى التكامل لبناء ثقافة التعاون.
في الأردن، يمكن أن تعمل التعاونيات المحلية على جمع المزارعين والحرفيين والصناعيين في منظومة تشاركية تُسهم في تبادل المعرفة والموارد بدلًا من إهدارها في صراعات غير مجدية. تصوروا مجتمعات تنتج غذاءها محليًا، تُسوّق منتجاتها ضمن شبكات تكافلية، وتبني اقتصادًا ذاتيًا لا يعتمد على المساعدات أو الديون الخارجية.
لا يمكن أن ينجح أي اقتصاد دون أن يكون الإنسان في صُلبه، فبناء الإنسان قبل بناء المشاريع. لذا، فإن الاستثمار في التعليم والتدريب المستمر أمرٌ لا غنى عنه. يجب أن تُمأسس وتُقونن الجامعات ومراكز التدريب في الأردن حاضنات لريادة الأعمال الاجتماعية، تُقدّم برامج عملية تُحول الأفكار إلى مشاريع مُجدية.
تصوروا برامج تدريبية تُعلّم الشباب كيفية تحويل النفايات إلى منتجات قابلة للبيع، أو كيفية استخدام الطاقة الشمسية في تشغيل مشاريع زراعية. تصبح هذه المهارات حجر الأساس لمجتمع قادر على النهوض بموارده المحدودة.
لا يكفي أن تكون هناك أفكار إبداعية، بل يجب أن تجد التمويل المناسب من خلال الاستثمار في الأفكار الواعدة. هنا يأتي دور رأس المال الجريء الذي يُركّز على دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تمتلك رؤية واضحة للاستدامة. لماذا لا يكون هناك صندوق استثماري في الأردن مخصص لدعم المشاريع التي تعيد تدوير النفايات البلاستيكية وتحولها إلى مواد بناء صديقة للبيئة؟ أو لدعم تعاونيات زراعية تعتمد على تقنيات الري الذكي لتوفير المياه؟ مثل هذه المبادرات ليست فقط مربحة، بل تخلق اقتصادًا قائمًا على الحلول الذكية.
التحدي ليس في نقص الموارد بقدر ما هي في التعثر في إدارتها. لا يمكن بناء اقتصاد تكافلي مع أشخاصٍ يرون المشاريع ك"أبقار حلوب" يستنزفونها لتحقيق مكاسب شخصية. بل يجب أن يكون هناك استثمار في قادة من القيم والأخلاق يُؤمنون بالتكافل ويعملون كمحفزين للتغيير الإيجابي في مجتمعاتهم. فاقتصاد التكافل حينها سيكون مقابل اقتصاد "البقرة الحلوب". المطلوب هو انتقاء الأفراد الذين يُجيدون بناء الجسور داخل مجتمعاتهم وليس أولئك الذين يسعون لخلق انقسامات وصراعات على الموارد.
اقتصاد التكافل لا يُدار بعقلية الجشع، بل بروح التكافل التي تُحوّل المجتمعات من مجموعات متنافسة إلى مجتمعات متعاونة تتشارك النجاح.
بناء اقتصاد التكافل ليس رفاهية، بل هو مطلب استراتيجي. الأردن يمتلك كل المقومات ليكون نموذجًا يُحتذى به في هذا المجال، من طاقاته البشرية المبدعة إلى موارده الطبيعية التي تنتظر من يُحسن إدارتها.
الطريق واضح. بهذه الطريقة، لن نخلق اقتصادًا مستدامًا فحسب، بل سنبني مجتمعات أقوى، متماسكة، وقادرة على رسم مستقبلها بأيديها. هكذا يكون اقتصاد التكافل. نموذجًا للنهضة، وليس مجرد بديل اقتصادي مؤقت.
حين تكون العدالة والاستدامة هما القاعدة، فإن النجاح يصبح النتيجة الحتمية.