اسماعيل الشريف يكتب : حجر الأساس

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال: 8].
شكلت اتفاقية التعاون الدفاعي عام 1996 بين الأردن والولايات المتحدة نقطة تحول في العلاقات بين البلدين؛ حيث أصبحت المملكة حليفًا استراتيجيًّا لواشنطن من خارج حلف الناتو. وتعززت هذه العلاقة بشكل أكبر مع توقيع اتفاقية الدفاع المشترك عام 2021، التي فتحت آفاقًا جديدة للتعاون العسكري والاقتصادي بين البلدين.
غير أن هذا التقارب الاستراتيجي مع واشنطن أثار انقسامًا في الرأي العام الأردني. فبينما رأى المؤيدون في الاتفاقية ضرورة استراتيجية فرضتها التحديات الأمنية في المنطقة وفرصة لتعزيز القدرات العسكرية والاقتصادية للمملكة، اعتبر المعارضون أنها تمنح النفوذ الأمريكي مساحة أوسع داخل البلاد.
وفي قراءة واقعية للمشهد، فإن العلاقات الدولية تحكمها المصالح المتبادلة لا العواطف، فالولايات المتحدة – كغيرها من الدول – لا تبرم اتفاقياتها بدافع الحب أو الكراهية، ولكن اهتمامها بتوطيد علاقاتها مع الأردن ينبع من إدراكها لأهميته الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط.
ورغم محدودية مساحته وموارده الطبيعية، يمثل الأردن ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة بأكملها. فأي اضطراب في استقراره لن تقتصر تداعياته على دول الجوار فحسب، بل ستمتد آثاره لتشمل المنطقة برمتها، وربما تصل تأثيراته إلى النطاق العالمي.
وقد حدد المحلل السياسي جيسي ماركس في مقال حديث بمجلة «فورين بوليسي» ثلاثة عوامل رئيسية تبرز أهمية الأردن للاستراتيجية الأمريكية في المنطقة: أولها دوره الإنساني كمنصة رئيسية للمساعدات وملاذٌ لأكثر من مليون لاجئ وسط إقليم مضطرب، وثانيها مكانته كشريك محوري في مكافحة الإرهاب، وثالثها أهميته الجيوسياسية والأمنية بالمنطقة، نظرًا لحدوده الطويلة مع الكيان الصهيوني.
إن سيناريو انزلاق الأردن - لا سمح الله - نحو الفوضى سيُحدث تداعيات بالغة الخطورة على المنطقة بأكملها. فمن ناحية، سيُفتح الباب مجدداً أمام عودة التنظيمات الإرهابية التي سيستعصي على أي دولة بمفردها مواجهتها. ومن ناحية أخرى، ستتصاعد الأزمة الإنسانية في غياب منصة إقليمية منظمة قادرة على إدارتها. كما ستواجه أوروبا موجات غير مسبوقة من الهجرة غير الشرعية، في حين ستجد الولايات المتحدة نفسها تتعامل مع تبعات أمنية وسياسية متشعبة.
وفي خضم هذه المخاطر المحدقة، يتبنى الرئيس ترامب مخططًا خطيرًا يستهدف تهجير سكان غزة إلى الأردن ومصر، بدعم من المتطرفين في الكيان الصهيوني. لكن هذا التوجه -كما يقول الأمريكيون أنفسهم- يشبه «إطلاق الرصاص على القدمين»، إذ إن مثل هذه المخططات ستقود حتمًا إلى زعزعة استقرار المنطقة بأكملها، بما يهدد المصالح الأمريكية ذاتها.
إن تهجير سكان غزة نحو الأردن سيضع المملكة أمام تحديات جسيمة. فمن المتوقع أن تندلع المظاهرات في مختلف أنحاء البلاد، مما سيضع القوات الأمنية أمام معادلة شديدة التعقيد: كيف توازن بين واجبها في حماية الوطن والنظام وأرواح المواطنين وممتلكاتهم من جهة، والتعامل مع المتظاهرين العنيفين من جهة أخرى.
وعلى الرغم من السجل التاريخي المشرف لأجهزتنا الأمنية في التعامل باحترافية مع الاحتجاجات والحفاظ على طابعها السلمي، فإن تصاعد التوتر قد يؤدي إلى ظهور فصائل مسلحة داخل الأردن. وعندما تبدأ هذه الفصائل في تنفيذ عمليات ضد العدو الصهيوني من الأراضي الأردنية، ستجد قواتنا الباسلة نفسها مضطرة للدفاع عن الوطن، مما قد يشعل فتيل حرب إقليمية شاملة.
إن تجربة الأردن السابقة مع منظمة التحرير الفلسطينية تقدم درسًا تاريخيًّا لا يمكن تجاهله. فعندما أصبحت المنظمة دولة داخل دولة، شكلت تهديدًا حقيقيًّا استدعى تدخلاً حاسمًا من المملكة. وحين انتقلت المنظمة إلى لبنان، تكرر السيناريو نفسه، مما أدى إلى اجتياح الصهاينة لبيروت عام 1982، وما تلاه من أحداث أفضت إلى نشوء حزب الله. وما حدث بعد ذلك بات معروفًا للجميع.
ومن المهم التأكيد أن استحضار هذه التجربة التاريخية ليس من باب توجيه اللوم لمنظمة التحرير، وإنما لتسليط الضوء على سيناريو واقعي قد يعيد الأردن والمنطقة بأكملها إلى حقبة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بكل ما تضمنته من اضطرابات وصراعات، وهو احتمال لا يمكن لأي طرف التقليل من خطورته أو تجاهل تداعياته.
وفي ضوء كل هذه المعطيات، نصل إلى نتيجة حتمية: خطة مصيرها الفشل. فالدولة العميقة في الولايات المتحدة، بما فيها الجناح الأمريكي في الحزب الجمهوري المعروف بولائه المطلق للكيان تدرك تمامًا مخاطر هذه الخطة، كما أن المجتمع الدولي يعي أن تداعياتها لن تقتصر على الأردن وحده، بل ستمتد لتهدد استقرار المنطقة والعالم بأسره، وقد اصدر قاض أمريكي قرارا بتعليق تجميد المساعدات الخارجية الذي فرضه ترامب، ولكنني لا أعلم إذا ما كان هذا القرار ملزما لادارته.
وبعيداً عن العواطف، فإن الأردن يمتلك أوراق قوة متعددة يمكنه استخدامها. ومن بين هذه الأوراق اتفاقيات الدفاع المشترك، التي تفرض التزامات متبادلة على الولايات المتحدة، وقد تُلزمها بعدم المساس بالأمن القومي الأردني. فهذه الاتفاقيات ليست علاقة أحادية الاتجاه، بل إطار قانوني يمكن للأردن الاستفادة منه في حماية مصالحه الوطنية.
وختامًا، على الرغم من الانقسام الداخلي حول الاتفاقيات الموقعة مع الولايات المتحدة، يقف الأردنيون صفًا واحدًا وراء قيادته في رفض سياسة التهجير القسري والتطهير العرقي في فلسطين المحتلة، متحدين في التصدي لأي محاولة لفرض هذه السياسات على الأردن أو المنطقة.