أ. د. هاني الضمور : تقليص مدة إقامة طلبة الدكتوراه في الخارج

يبدو أن هناك توجهًا واضحًا نحو تقليص مدة إقامة طلبة الدكتوراه الأردنيين الذين يدرسون في الخارج، خصوصًا في التخصصات الإنسانية، من عشرين شهرًا إلى اثني عشر شهرًا، بناءً على ضغوط تمارسها مجموعة من الطلبة الراغبين في استكمال دراساتهم العليا خارج الأردن. هؤلاء الطلبة، ومعظمهم من الموظفين، يرون في الإقامة الطويلة عائقًا أمام التزاماتهم الوظيفية، ويسعون إلى تعديل الأنظمة لتناسب ظروفهم الشخصية. لكن هل يجوز أن يُعاد تشكيل نظام الدراسات العليا برمته استجابة لهذه المطالب، دون النظر إلى التأثيرات العميقة على جودة التعليم والاعتراف الأكاديمي الدولي بشهادات الخريجين؟ وهل يمكن اختزال الدكتوراه، وهي أرفع الدرجات الأكاديمية، إلى مجرد مدة إقامة قصيرة لا تعكس متطلبات البحث العلمي الرصين؟
إن التخصصات الإنسانية، رغم عدم حاجتها إلى مختبرات وتجارب عملية كتلك التي تتطلبها التخصصات العلمية، تعتمد بشكل جوهري على التعمق الفكري، والتحليل النقدي، والانخراط في بيئة أكاديمية تتيح للطالب التفاعل المستمر مع أساتذته وزملائه الباحثين. كيف يمكن لطالب دكتوراه في الفلسفة، أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو العلوم السياسية أن ينتج بحثًا ذا قيمة علمية خلال فترة إقامة قصيرة؟ متى سيجد الوقت الكافي للقراءة المتعمقة، ومراجعة المصادر، والتفاعل مع الأكاديميين، وتطوير أفكاره البحثية؟ إن الدراسات الإنسانية لا تقوم على الحفظ والتلخيص، بل على النقاش والتحليل والتطوير المستمر للأفكار، وهذه العملية تحتاج إلى وقت ومساحة فكرية، لا إلى ضغط زمني يفرض على الباحث إنهاء عمله قبل أن ينضج فكره.
العلاقة بين الطالب والمشرف الأكاديمي تشكل حجر الأساس في مسيرة الدكتوراه، حيث لا يقتصر دور المشرف على مراجعة المسودات، بل يمتد إلى توجيه البحث، وتصحيح المسار عند الحاجة، وضمان أن الأطروحة تضيف جديدًا إلى الحقل العلمي. فكيف يمكن اختزال هذه العلاقة إلى عام واحد فقط؟ متى سيتمكن الطالب من الاستفادة الحقيقية من خبرة المشرف، إذا كان عليه مغادرة بلد الدراسة قبل أن تتاح له فرصة بناء علاقة أكاديمية متينة؟ المشرفون أنفسهم يحتاجون إلى وقت كافٍ لمتابعة تقدم الطالب، وإعطائه الملاحظات الضرورية، والتأكد من أن بحثه يسير في الاتجاه الصحيح، وليس مجرد عمل مستعجل يفتقر إلى العمق العلمي.
إن التجربة الأكاديمية في الخارج لا تتوقف عند حدود الدراسة فقط، بل تمتد إلى حضور المؤتمرات العلمية، والمشاركة في الحوارات الأكاديمية، والتفاعل مع أساتذة وباحثين من مختلف الخلفيات الثقافية والعلمية. هذه التجربة تساهم في نضج الباحث، وتساعده على تطوير رؤيته النقدية، وتجعله أكثر قدرة على فهم مجاله العلمي في سياق عالمي. إذا تم تقليص مدة الإقامة، فمتى سيتمكن الطالب من حضور المؤتمرات المهمة في مجاله؟ كيف سيبني شبكة علاقات أكاديمية تساعده في مستقبله البحثي؟ متى سيتاح له الوقت للانخراط في مجتمع البحث العلمي، بدلًا من أن يكون مجرد زائر عابر ينهي دراسته في عجالة ثم يعود بشهادة قد لا تعكس تجربة أكاديمية حقيقية؟
ثم إن الاعتراف الدولي بشهادات الدكتوراه يعتمد على توافقها مع المعايير الأكاديمية العالمية، والتي تتطلب حدًا أدنى من الإقامة في بلد الدراسة لضمان تحقيق الطالب لمستوى أكاديمي لائق. إذا تم تقليص هذه المدة، فكيف ستتعامل الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العالمية مع شهادات الدكتوراه الأردنية؟ هل ستظل بنفس القيمة والاعتراف، أم أنها ستواجه تشكيكًا في جودتها؟ كيف يمكن أن نطالب المجتمع الأكاديمي الدولي باحترام شهاداتنا، في حين أننا نقلص متطلبات الإقامة الأكاديمية بشكل قد يُنظر إليه على أنه تساهل في معايير الجودة؟
إن المطالبة بتقليل مدة الإقامة ليست سوى محاولة لاختصار تجربة أكاديمية لا يجب اختصارها. لا أحد يُجبر الطلبة على الدراسة في الخارج، ولكن من يختار هذه الطريق عليه أن يلتزم بالمعايير الأكاديمية التي تضمن حصوله على تعليم حقيقي وليس مجرد شهادة. إذا كان بعض الطلبة الموظفين يرون أن الإقامة الطويلة تشكل عائقًا أمام عملهم، فهل الحل هو تقليص متطلبات الدكتوراه بأكملها لتناسب ظروفهم الشخصية؟ أليس الأجدر أن يُمنحوا تسهيلات أخرى، مثل الدراسة الجزئية أو برامج الإشراف المشترك، بدلًا من التعديل الجذري لمعايير الإقامة؟ إن تغيير النظام الأكاديمي ليخدم فئة معينة من الطلبة، بدلًا من أن يحافظ على جودة التعليم، هو مسار خطير قد يؤدي إلى تراجع سمعة الدكتوراه الأردنية عالميًا.
بدلًا من اللجوء إلى تعديل مدة الإقامة، لماذا لا يتم البحث عن حلول أخرى أكثر ذكاءً؟ لماذا لا يتم تعزيز برامج التعاون بين الجامعات الأردنية والجامعات العالمية، بحيث يتمكن الطلبة من قضاء جزء من دراستهم في الأردن مع الحفاظ على الاعتراف الأكاديمي بشهاداتهم؟ لماذا لا يتم تقديم دعم أكاديمي وإداري للطلبة الذين يواجهون تحديات في التوفيق بين العمل والدراسة، بدلًا من تقليص متطلبات الدكتوراه بطريقة قد تضر بمخرجات البحث العلمي؟
على لجنة التربية في مجلس النواب أن تتعامل مع هذا الموضوع بحذر، فالتعليم العالي ليس حقل تجارب إداريًا، ولا يجب أن يتم تشكيله بناءً على مطالب بعض الطلبة دون النظر إلى التداعيات طويلة الأمد. لا بد من دراسة هذا القرار بعناية، والاطلاع على المعايير الدولية، والتأكد من أن أي تعديل لن يؤدي إلى تقليل قيمة الشهادات الأردنية في المحافل الأكاديمية العالمية.
إن البحث العلمي لا يُختصر، والتفكير النقدي لا يُضغط في جدول زمني ضيق، وإنتاج المعرفة لا يتم وفق حسابات زمنية بحتة. الدكتوراه ليست مجرد شهادة، بل هي تجربة فكرية متكاملة يجب أن تأخذ وقتها لتؤتي ثمارها. فإذا كان هناك توجه لتقليص هذه التجربة، فإن السؤال الحقيقي الذي يجب أن يُطرح هو: هل نريد أن نُخرّج باحثين حقيقيين قادرين على الإضافة إلى مجالاتهم، أم أننا نسعى فقط إلى منح شهادات بأسرع وقت ممكن، بغض النظر عن قيمتها العلمية؟
"البحث العلمي لا يُختصر بالوقت، ولا تُصنع العقول العظيمة على عجل؛ فمن استعجل الحصاد قبل أوانه، لم يحصد إلا معرفة سطحية لا تُثمر فكرًا ولا تبني أمة.”