اسماعيل الشريف يكتب : المأزق الأوروبي
«أي دولة أو منظمة تساعد أو تحرّض على هذه الفظائع يجب أن تتوقع مواجهة مقاومة حازمة من الولايات المتحدة» – ليندسي غراهام، بعد صدور مذكرة اعتقال نتن ياهو.
لم أتخيل يومًا أن محكمة الجنايات الدولية ستصدر قرارًا باعتقال مجرمي الحرب نتن ياهو وغالانت.
ولكن القرار قد صدر!
في بداية الإبادة الجماعية، شهدنا دعمًا أوروبيًا كبيرًا للكيان بالسلاح والمال والاعلام والمواقف السياسية، مما يجعلها شريكة في المسؤولية عن الإبادة الجماعية التي تُرتكب في غزة. ومع مرور الوقت وتزايد فداحة الجرائم والضغط الشعبي، برز تضارب واضح بين ما تقدمه تلك الدول من دعم للإبادة وما تدّعيه من التزام بقيم السلام، الحرية، التسامح، الديمقراطية، وقدسية الحياة.
بدأ هذا التناقض ينعكس على مواقف الدول الأوروبية، حيث استمر البعض في تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي وتضييق الحريات، بينما حاولت دول أخرى كبح جماح نتن ياهو، لكنها فشلت تمامًا. فمع وجود أقوى دولة في العالم إلى جانب الكيان، تمدّه بالسلاح وتدافع عنه، ويمنحه مجلس نوابها الضوء الأخضر لاستمرار الإبادة الجماعية، يصبح السؤال: من يحتاج إلى حلفاء آخرين؟
هذا القرار هو انتصار لفلسطين، حتى لو جاء متأخرًا. يعلم القارئ الواعي أن نتن ياهو لن يُعتقل، ولكن القرار يحمل تداعيات كبيرة على الكيان تشمل تقييد حركة المسؤولين وتوتر العلاقات الدبلوماسية، فضلًا عن الضغوط الاقتصادية والتحديات على الصعيدين الدولي والداخلي وتصدير السلاح والتعاون الاكاديمي. قد يتوسع نطاق القرار ليشمل إصدار مذكرات اعتقال بحق جنود وساسة صهاينة، وربما أجانب متورطين.
ويُضاف إلى الأسباب المذكورة أعلاه سبب مهم آخر سأحاول شرحه:
تقع محكمة الجنايات الدولية في هولندا، الدولة التي أظهرت تأييدًا واضحًا للمجزرة ولم تُصدر أي قرار سابق ضد جرائم الكيان. ومع ذلك، تجد البلد المضيف نفسها ملزمة بالانصياع إلى قرارات المحكمة، حتى لو تعارضت مع مصالح حلفائها، مثل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الداعمة للإبادة الجماعية. واللافت أن الولايات المتحدة سبق أن هددت بغزو هولندا إذا أصدرت المحكمة مذكرات اعتقال لنتن ياهو، وذلك بموجب قانون لاهاي الذي يمنحها الحق في غزو مقر المحكمة لحماية مواطنيها. فما بالك إذا كان المستهدف هو نتن ياهو نفسه، الملك غير المتوج للولايات المتحدة، الذي يحظى بقدسية سياسية ودينية هناك!
مذكرات الاعتقال هذه ستضع الأوروبيين في مواجهة مع الولايات المتحدة، كما ستؤدي إلى انقسامات بين أعضاء الاتحاد الأوروبي نفسه، مما يفاقم التوترات داخل الاتحاد ويضعفه. إضافةً إلى ذلك، قد تُسهم في إضعاف حلف الناتو.
لا أحد يعلم كيف سيتبلور هذا الانقسام، فقد نشهد كرة ثلج تتدحرج، تؤدي إلى تفكيك تحالفات قديمة وتشكيل أخرى جديدة. وربما ينتهي الأمر بتفكيك الاتحاد الأوروبي نفسه وانهيار حلف الناتو، خاصة بعد عودة ترامب -الكاره للناتو والمنظمات- الدولية إلى السلطة .
تقف أوروبا اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن تتخذ قرارًا موحدًا يعزز وحدتها، أو تنقسم، ليُضاف هذا الخلاف إلى سلسلة خلافاتها الأخرى، كالحرب في أوكرانيا والقضية الفلسطينية. في حال فشلها في التوافق، ستتآكل مصداقية المنظمات الأوروبية والدولية، مما يعزز الانطباع بأن أوروبا عاجزة عن الحفاظ على مكانتها ودورها كقوة مؤثرة على الساحة العالمية.
إن عدم التزام أوروبا سيعزز لدى الكثيرين قناعة بأنها تمارس النفاق السياسي، مما يُسيء إلى صورتها عالميًا. فالإسراع في إصدار مذكرة اعتقال بحق بوتين، مقابل رفض أو تأخير مماثل لنتن ياهو، يكشف ازدواجية المعايير التي تتناقض مع ادعائها بأنها معقل الحضارة الإنسانية. هذا التناقض لن يقتصر ضرره على السمعة فقط، بل سيمتد ليؤثر سلبًا على مصالحها السياسية والاقتصادية حول العالم.
وبصراحة أكثر، لم يتبقَ لأوروبا من أدوات الاستعمار القديمة سوى القانون الدولي والمنظمات الدولية، التي تُمكّنها من الاستمرار في فرض هيمنتها على الأعداء أو استغلال الضعفاء. أما جيوشها، فلم تعد مؤهلة لخوض حروب القرن الحادي والعشرين. ــ الدستور