صالح الشرّاب العبادي : السلطات القضائية في الدول الضعيفة: قلاع عدل حاصرتها السطوة

في كل حضارة حقيقية، كان القضاء هو أول البنيان، وأسمى المقامات، فهو ليس فقط سلطة من سلطات الدول ، بل هو وجدانها، صوت الضمير فيها، وسلاحها ضد الظلم.
السلطات القضائية، حين تكون حرة، نزيهة، منيعة، تصنع أمة يُخاف جانبها، ويُؤمن بها المظلوم، وتُبنى على أرضها قيم الحياة الكريمة.
لكن في دول العالم الثالث ( ولا اعمم ) والدول منقوصة السيادة ، بات القضاء شبحًا لما كان يجب أن يكون، تحوّل من حصن يُلجأ إليه، إلى هيكلٍ مُحاصر، تتهدده يد النفوذ، وتثقل كاهله قرارات تُصنع في غرف السياسة المغلقة، لا في قاعات المحاكم، صار القضاء يُحاصر بالصمت، إن أراد أن ينطق بالحق، ويُعاقب إن حاول أن يكون حرًا.
لقد أُفرغت المؤسسات القضائية في بعض تلك الدول من مضمونها، وشُوّهت قدسية محراب العدالة، فبات القضاء بين فكي كماشة: ضغوط السلطة من جهة، وتوقعات الناس التي تذوي من جهة أخرى، نُصِّب على القضاء من ليس له به شأن، واستُخدم كسلاح للترهيب لا للإنصاف، وللتغطية لا للكشف، ولترسيخ الاستبداد لا لمحاسبته.
في هذا المشهد المعتم، لا عجب أن نرى المظلومين في الدول الهزيلة والشعوب المقهورة حول العالم ، لا يجدون أبوابًا يُطرقونها، ولا قضبانًا يُزيحونها، ولا قاعات يُنصفون فيها، بل إن بعض المحاكم أضحت ساحات لتبييض الجور، وسلالم يصعد عليها الطغاة لإضفاء شرعية زائفة على بطشهم.
والأدهى من ذلك، أن النظام القضائي الدولي، الذي كان يُفترض به أن يكون الملاذ الأكبر للضعفاء والشعوب المظلومة والمكلومة ، أصيب بذات العدوى.
غابت فاعليته أمام قضايا كبرى، وعلى رأسها ما يجري في فلسطين، في غزة التي تنزف ظلمًا كل لحظة، دون أن يُدان الجاني أو تُنصف الضحية.
سكتت المحاكم عن القصف والتجويع والحصار، وتلعثمت العدالة حين صار الظالم حليفًا للقوي.
فأي عدلٍ هذا الذي لا يحمي المقهور؟، وأي قضاء ذاك الذي يرتجف حين تُمتحن نزاهته أمام القوة؟..
إن القضاء الذي لا يملك الاستقلال، لا يصنع عدلًا، بل يُجمّل الظلم، ويمهّد له الطريق.
السلطات القضائية ليست مؤسسات يُحكم عليها بالأرقام، بل روحٌ إذا صلحت صلح معها كل شيء، وإذا خُدشت، تهدّمت أركان الدول ، وساد قانون الغاب، وتحوّل الإنسان إلى رقم في تقارير الانتهاكات.
في هذا الزمن المزدحم بالخذلان وما نرى ونسمع من الجور والظلم لشعوب دول العالم الضعيفة ، يجب ان يعاد للقضاء هيبته، يفصل بينه وبين سطوة السلطة.
أن يبنى قضاءً لا يُهدّد، لا يُشترى، لا يُروض.
قضاءً يقف مع الحق ولو على حافة الهاوية.
فإن سقطت آخر قلاع العدالة، فماذا يبقى للشعوب غير القهر والعتمة والظلام ؟..