صالح سليم الحموري يكتب : من الاستشراف إلى صناعة المستقبل
شهدت الدراسات المستقبلية تحولًا جذريًا خلال العقود الماضية، حيث انتقلت من كونها وسيلة لاستشراف ملامح الغد وتحليل الاتجاهات الحالية، إلى أن أصبحت أداة فعّالة لصناعة المستقبل. وقد كان لي شرف المشاركة مع الدكتور أحمد ذوقان الهنداوي والأستاذة رولا المعايطة في إعداد أول كتاب متخصص في استشراف المستقبل وصناعته عام 2016، وهي إحدى المبادرات الرائدة لإدخال هذا المفهوم إلى العالم العربي، حيث كان اول كتاب متخصص بهذا الموضوع. هذا التحول لا يعكس فقط تطورًا منهجيًا، بل يُبرز وعيًا عميقًا بأن المستقبل ليس حدثًا ننتظره، بل هو مشروع يتم تصميمه وبناؤه عبر قراراتنا الحاضرة وأفعالنا المستبصرة.
في الماضي، كانت دراسات المستقبل تعتمد على تحليل البيانات والاتجاهات السائدة والمستقبلية لرسم صورة لما قد يكون عليه العالم. كانت هذه الدراسات تهدف إلى فهم المخاطر والتحديات المحتملة، لكنها غالبًا ما اتسمت بطابعها النظري. اليوم، تغيرت الأولويات بشكل جذري، وأصبح التركيز منصبًا على العمل الفعلي والتأثير المباشر في صياغة ملامح المستقبل. لم يعد السؤال "ماذا سيحدث؟" بل تحول إلى "كيف يمكننا أن نصنع المستقبل الذي نطمح إليه؟".
لم تعد التكنولوجيا عنصرًا مجهولًا ينتظر المستقبل ليظهر دوره، بل أصبحت الأداة التي يُبنى بها هذا المستقبل. تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي، الحوسبة الكمية، والطباعة ثلاثية الأبعاد لم تعد مجرد اختراعات حديثة، بل هي عناصر أساسية تُستخدم في صياغة السياسات المستقبلية. على سبيل المثال، تُوظف تقنيات الذكاء الاصطناعي اليوم لتحليل البيانات الضخمة واكتشاف الأنماط، ما يساعد الحكومات والشركات على اتخاذ قرارات مدروسة تخدم أهدافها المستقبلية.
مع تسارع التغيرات العالمية، أصبحت الرشاقة المؤسسية والمرونة عنصرًا أساسيًا في صناعة المستقبل. التغير المناخي، الأوبئة، والتحديات الاقتصادية هي أمثلة على الأزمات التي تتطلب استراتيجيات مرنة قادرة على التكيف. على سبيل المثال، أظهرت نيوزيلندا نموذجًا ملهمًا من خلال تبني سياسات حكومية تركز على رفاهية المواطنين كأولوية قصوى، ما يعكس رؤية استباقية تسعى إلى تحقيق استدامة طويلة الأمد.
وحيث ان صناعة المستقبل لا تنفصل عن دور القيادة التي تتمتع برؤية استباقية، حيث ان القادة الذين يتبنون الابتكار ويؤمنون بقوة الشراكات العالمية هم الأكثر قدرة على توجيه بلدانهم نحو مستقبل أفضل.
في دولة الإمارات، تُعد مبادرات مثل "استراتيجية دبي10X"و"متحف المستقبل" أمثلة حية على التحول من استشراف المستقبل إلى صناعته. كما قال صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "المستقبل لا يُنتظر، المستقبل يمكن تصميمه وبناؤه اليوم." هذه المبادرات لم تكتفِ برسم صورة طموحة، بل عملت على تحويل الأفكار إلى واقع، لتصبح دبي مركزًا عالميًا للابتكار وصناعة المستقبل.
هناك فرصة للتحول، حيث تملك المنطقة العربية إمكانيات هائلة تمكنها من أن تكون في طليعة الدول التي تصنع المستقبل. من خلال مبادرات مثل "نيوم" في المملكة العربية السعودية، و"حكومة دبي الذكية"، أثبتت الدول العربية قدرتها على تقديم نماذج رائدة للتغيير. هذه المشاريع ليست مجرد استجابة للتحديات الحالية، بل هي رؤى تستشرف المستقبل وتعمل على تحقيقه.
أن صناعة المستقبل تبدأ بتحديد الأولويات ورسم السيناريوهات المرنة التي يمكن تنفيذها على أرض الواقع. التحليل الدقيق للبيانات الضخمة، واستخدام الذكاء الاصطناعي، وتشجيع الابتكار وريادة الأعمال، هي أدوات أساسية في هذه الرحلة.
الابتكار لم يعد خيارًا، بل ضرورة. الأبحاث العلمية والاستثمار في التعليم هما ركيزتا التطور الذي يفتح المجال أمام أجيال جديدة قادرة على قيادة التغيير. من خلال التعاون العالمي، يمكن مواجهة التحديات المشتركة كالتغير المناخي والتفاوت الاقتصادي، ما يعزز من قدرة الدول على تحقيق أهدافها الطموحة.
الخلاصة،المستقبل لم يعد مجرد فكرة نتطلع إليها، بل أصبح ساحة للعمل والإبداع. التحول من استشراف المستقبل إلى صناعته يعكس نضجًا في طريقة التفكير وإدراكًا بأن القرارات الحالية هي ما يُحدد ملامح الغد.
في المنطقة العربية، تقف الدول أمام فرصة تاريخية لتثبت للعالم أنها ليست فقط جزءًا من المستقبل، بل صانعته. من خلال رؤية طموحة، وتبني الابتكار، والعمل المشترك، يمكن أن تكون هذه المنطقة مصدر إلهام للعالم في كيفية بناء مستقبل مستدام ومزدهر.