الأخبار

سائد كراجة : هل الأردن مسير أم مخير؟

سائد كراجة : هل الأردن مسير أم مخير؟
أخبارنا :  

لعقودٍ خلت، اعتمد الأردن التحالف مع أميركا خيارًا استراتيجيًا براغماتيًا، وفي العقل السياسي الأردني أثبت هذا التحالف جدواه في مساندة الدولة لتجاوز محطات صعبة من تاريخها، وأسهم في دعمها اقتصاديًا وعسكريًا ضمن بيئة إقليمية مضطربة. والسؤال اليوم: هل ما يزال هذا التحالف يحتفظ بالوزن الاستراتيجي نفسه، في ظل التحوّل الجاري في طبيعة الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وتحول أولويات السياسة الأميركية في المنطقة كما تعكسها استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2025؟هذا السؤال بدأ يتبلور أردنيًا قبل العدوان على غزة، حين كشفت «صفقة القرن» توجّهًا اسرائيليا–أمريكيا لتجاوز الإطار السياسي التقليدي لحل الصراع العربي–الإسرائيلي، واستبدال خيار السلام بخيار التطبيع المجاني. بعد غزة، لم يعد هذا التوجّه ضمنيًا، بل جرى الإعلان عنه بوضوح أكبر، مع إسقاط خيار السلام لصالح انكار الدولة الفلسطينية، وطرح التهجير علنًا، والتعامل مع الفلسطينيين بوصفهم سكانًا يُدار وجودهم، لا أصحاب حقوق سياسية أو تاريخية معترف بها.
التبدلات التي قادتها الحكومات اليمينية في إسرائيل بدت، في هذا السياق، كاشفة أكثر منها منشئة. فهي لا تعبّر عن مواقف ظرفية لزعماء محددين، بل تكشف اتجاهًا راسخًا في مقاربة الدولة الصهيونية للصراع. وبهذا المعنى، لم تعد عملية السلام، بما فيها الاتفاقيات والمسارات التفاوضية، إطارًا حقيقيًا لإنتاج حل، بل تكشف أنها كانت ملهاة لإدارة الوقت وفرض الوقائع على الأرض. ومع هذا التحول، تراجعت فكرة الحقوق السياسية والقانونية لصالح إدارة واقع ميداني بات هو المرجعية الأساسية.
في قلب هذا الواقع، تبرز الديمغرافيا الفلسطينية المتفوّقة عدديًا في فلسطين التاريخية بوصفها مأزقًا بنيويًا للمشروع الصهيوني. فالوجود الفلسطيني المتجذّر يتناقض جوهريًا مع مشروع يقوم على يهودية الدولة وإقصاء الآخر. من هنا، لا تُطرح الديموغرافيا كمعطى قابل للتكيّف، بل كمشكلة يُبحث عن سبل نفيها، إمّا عبر التهجير بمختلف أشكاله، أو عبر الإقصاء السياسي والقانوني للفلسطينيين من خلال إنكار حقوقهم أو بكليهما معًا.
في هذا السياق، عاد الخطاب الإسرائيلي، بدعم أميركي، ليتحدث عن مقاربات لمعالجة هذا المأزق على حساب الأردن، عبر مفاهيم مثل «الوطن البديل» أو التهجير بأشكاله المختلفة. ورغم أن الولايات المتحدة ما تزال رسميًا متمسكة بحل الدولتين، فإن ممارساتها العملية، من نقل السفارة إلى القدس، إلى شرعنة الاستيطان وتبنّي خطاب «يهودا والسامرة»، تجعل هذا التمسك موضع شك. ومع أن سيناريوهات التهجير الجماعي المباشر تبدو مستبعدة من قبل كثير من الساسة الأردنيين، فإن مخاطر التهجير البطيء وفرض الأمر الواقع تبقى قائمة.
أمام هذا المشهد، لا يكمن التحدّي الأردني في التحالف مع أميركا بحدّ ذاته، بل في مدى قدرته اليوم على حماية الأمن الوطني الأردني كما في السابق. فالتحولات في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي، وما يرافقها من طرح للتهجير وإعادة تشكيل الواقع السكاني، لم تعد ملفات إقليمية يمكن احتواؤها دبلوماسيًا، بل باتت تمسّ الأمن الوطني الأردني مباشرة، وتفرض مراجعة واقعية للأدوات القائمة.
في هذا الإطار، تبدو البراغماتية إدارة واقعية للمصالح في ظل تغيّر الظروف، لا تمسّكًا مطلقًا بالتحالفات القائمة ولا اندفاعًا نحو بدائل غير محسوبة. فهي تنعكس في قراءة التحولات كما هي، وتقدير ما تغيّر فعليًا في موازين القوة والالتزامات، ثم تعديل الأدوات بما يحفظ هامش القرار ويقلّل المخاطر، وبما يسمح بالتعامل مع التحوّلات بإيقاعها الخاص بدل الانسياق إليها.
في هذا السياق، تبقى الخاصرة الاقتصادية هي الأضعف والأكثر عرضة للضغط. فالتجربة تُظهر أن الضغوط السياسية غالبًا ما تمر عبر الاقتصاد، وأن تراجع النمو أو اتساع الهشاشة يضيّق هامش القرار ويزيد قابلية التكيّف القسري مع وقائع مفروضة. من هنا، يصبح تحصين الاقتصاد شرطًا أساسيًا لحماية الاستقلال في القرار، لا مسألة تقنية منفصلة عن الأمن الوطني.
في المحصلة، لا يدعو هذا النقاش إلى القطيعة مع التحالفات القائمة، ولا إلى الاندفاع نحو بدائل غير محسوبة، بل إلى قراءة واقعية للتحوّلات كما هي. فاستمرار الاستقرار لا يرتبط بثبات الخيارات، بقدر ما يرتبط بمرونة إدارتها في الوقت المناسب. وفي بيئة إقليمية سريعة التغيّر، تصبح القدرة على الاستباق وتقليل الكلفة والتحكّم بإيقاع التحوّل عامل حماية أساسي، لا يقل أهمية عن طبيعة التحالفات نفسها. وإن غدًا لصانعيه قريب، جنابك ــ الغد

مواضيع قد تهمك