الأخبار

محمد ابو رمان : شاهد من الداخل.. ذاكرة المؤسسة

محمد ابو رمان : شاهد من الداخل.. ذاكرة المؤسسة
أخبارنا :  

يتجاوز كتاب الكلمة والقرار: حين اختار الأمن أن يُصغي (الأمن الوطني والإعلام الأمني في زمن الربيع العربي) لمؤلفه العقيد المتقاعد محمد جميل الخطيب، عملية الأرشفة أو التوثيق لمرحلة مهمة وحرجة من التاريخ السياسي الأردني، بل من تاريخ المنطقة بأسرها، وهي تلك الاحتجاجات الشعبية الواسعة، والتي أطلق عليها الربيع العربي، وقد أدّت في كثير من الدول إلى حالة من الفوضى الداخلية الكبيرة أو إسقاط النظام والعنف المادي والرمزي والقتل والتعذيب والمشاهد الكارثية، بينما مرّت على الأردن برداً وسلاماً، بل قدّمت البلاد فيها نموذجاً استثنائياً في المنطقة، أُطلق عليه محلياً «الأمن الناعم» وأدهش كثيراً من السياسيين والمواطنين العرب، بخاصة عندما يقارن بالتعامل الطبيعي لقوات الأمن مع المسيرات في العديد من دول العالم.

يقودنا المؤلف إلى المراحل الأولى التي تمّ فيها تدشين مكتب إعلام خاص بالأمن العام، في حقبة المرحوم محمد ماجد العيطان، ثم تكريس تلك السياسة في مرحلة مازنالقاضي، ثم النقلة النوعية التي أحدثها حسين المجالي في العديد من المفاهيم والسياسات الأمنية داخل المؤسسة نفسها، وتوازي ذلك كلّه مع الطفرة الإعلامية في دور الأمن العام، من خلال استحداث مكتب للناطق باسم الأمن العام، ثم إذاعة الأمن العام، ثم الانتقال إلى مرحلة الاحترافية والمهارات الاتصالية وتطويرها للعاملين من رجال الأمن في حقل الإعلام، بل وصوغ سردية أمنية وإعلامية متماسكة تسابق الزمن في مرحلة أصبحت الفضائيات والمواقع الإخبارية ثم مواقع التواصل الاجتماعي هي من تقود الرأي العام وتتجاوز حدود وطبيعة الإعلام التقليدية وتتطلب تواصلاً مباشرة وفعالية مستمرة على مدار الساعة من العاملين في الأمن العام للتعامل مع الأخبار والإشاعات والقصص وعدم ترك فراغ يؤدي إلى تزوير الواقع أو تشويه الوقائع.

يقف الخطيب عند تلك السياسات والمواقف والأحداث ويسرد لنا كثيراً من الوقائع في مرحلة الاحتجاجات الأردنية، مبيناً الفلسفة الثاوية وراء «الأمن الناعم» والقواعد والقيود التي حكمت عمل الأمن العام والرسائل الملكية الدقيقة في تلك المرحلة وترجمتها على صعيد الميدان، فهو لا يتوقف عندما حدث، بل يمنحنا فرصة نادرة إلى الولوج إلى ما وراء الأحداث لفهم ما هي القيم والاعتبارات التي وقفت وراء السياسات والمواقف الأمنية في تلك الحوادث والأحداث الرئيسية التي وقعت خلال مرحلة الاحتجاجات الشعبية في الربيع العربي.

القيمة الأكثر أهمية لهذا الكتاب تتمثّل في أنّه يبني «الذاكرة المؤسسية» للدولة؛ وهذه قضية جوهرية ورئيسية، ومما نفتقر إليه في الاردن، في أغلب مؤسساتنا ووزاراتنا، والذاكرة المؤسسية ليس فقط لجهاز الأمن العام، خلال حقبة في غاية الأهمية، مما سيفيد بصورة كبيرة لاحقاً المؤرخين والباحثين وحتى أصحاب القرار في الجهاز نفسه، وإنّما أيضاً مهم لأنّه يطلعنا على عملية صنع القرار السياسي والأمني في تلك المرحلة المهمة، ويتجاوز بنا إلى زوايا أخرى لم تكن مرئية في صيغتها العملية إنما ما كان مشاهد فهي المخرجات والقرارات وليست العمليات والمدخلات وعملية الإدراك الرسمي لتلك المدخلات؛ بحيث برزت المخرجات على تلك الصورة.

الكتاب، من زاويةٍ أخرى، هو بالمنظور المنهجي لعلم الاجتماع؛ بمثابة إضافة نوعية في المقاربة الثقافية المؤسسية الجديدة New Cultural Institutionalism وهي المقاربة التي تركز على البعد المعياري والثقافي في فهم المؤسسات، فالمؤسسات، وفقاً لأصحاب هذه النظرية، ليست مجرد أدوات محايدة أو صمّاء، بل تتجسّد من خلال التقاليد والممارسات والثقافات والخطابات والرموز، والتغيير المؤسسي يحدث عندما تتغير الرموز والمعاني، وقد استخدم المؤلف منهجاً مناسباً تماماً لهذه المقاربة، من خلال تحليل الخطابات والرسائل وتفسير العبارات والرموز والملاحظة المباشرة عبر المعايشة، بوصفه أحد المشاركين في صناعة السياسات والقرارات، في الحدّ الأدنى على الصعيد الإعلامي، وهو المرتبط ببناء السردية والخطاب والأفكار، فنحن هنا لم نقف فقط عند تحليل الخطاب، بل عند صياغته وبنائه وإنتاجه على حد تعبير نيومان فيركلاف.

مواضيع قد تهمك