رمزي الغزوي : حين تطفأ الشاشات وتبقى الكتابة

كان المثقف، ذات زمن ليس ببعيد، أشبه بجذوة في العتمة؛ يشتعل ليضيء، لا ليحرق، ويحترق ليقول: «أنا هنا»، في عالم يمضي نحو النسيان. لم يكن وسيط معرفة، بل شاهدا على الإنسان حين ينسى نفسه، وضميرا يقظا حين تتخدّر المجتمعات بترف الجهل وأمان الصمت.
اليوم، يقف هذا الكائن المرهق على حافة زمن جديد، يراقب الذكاء الاصطناعي وهو يتسلل إلى المفردات، يحتل السطور، ويعيد كتابة الواقع بلغة بلا قلب، بلا دم، بلا وجع. ليس لأن الآلة شريرة، بل لأنها ببساطة لا تتألم.
في زمن يُقاس فيه العمق بكم ميلي ثانية استغرقت الإجابة، والمعلومة بكم نقرة، لا بعدد الأسئلة، يبدو أن المثقف يخسر معركة لم يختر خوضها. والخسارة الحقيقية ليست في تفوّق الخوارزميات، بل في انقراض الإنسان الذي كان يسكن قلب المثقف. ذلك الإنسان الذي لم يكن يخاف من أن يخطئ، أو يتأخر، أو يتعثر، لأنه يعرف ويعي أن المعنى لا يولد من الكمال، بل من الهشاشة النبيلة.
الذكاء الاصطناعي يعرف كل شيء، إلا سبب الألم ومذاقه. يمكنه أن يكتب قصيدة، لكنه لن يدرك لذعة الحنين. يكتب تقريرا عن المجازر، لكنه لا يسمع صراخ الأطفال ولا يضع يديه على رأسه حين يسقط صاروخ أعمى. ينسق الكلمات بإتقان، لكنه لا يرتجف إن كتب عن غزة ومأساتها. هو عقل بلا ذاكرة، بلا حزن. والمثقف، إن تخلى عن ذاكرته ودموعه، لن يتفوق عليه سوى آلة.
المفكر الألماني يورغن هابرماس، أحد أبرز المدافعين عن الإنسان في وجه التقنية المتوحشة، حذّر من هذا الزحف الصامت. قال إن الذكاء الاصطناعي لا يفهم السياق الأخلاقي، ولا يشارك البشر حساسيتهم الإنسانية. وإن تحوّل القرار البشري إلى ناتج حسابي، هو طريق مختصر نحو عالم بلا مساءلة، بلا حوار، بلا روح.
نحن لا نكتب كي نعجب أحدا، بل نكتب كي نربك، نزعج، نوقظ، ونهمز. والمثقف، حين يصير محايدا، يكون قد انتحر بلغة أنيقة. ولهذا فالزمن القادم ليس للمطأطئين رؤوسهم أمام الشاشات. بل لأولئك الذين يحدقون فيها بعيون مفتوحة، ويقولون: «لن أنسى». لأن الذكاء الاصطناعي لربما يكتب سيرتنا، لكنه لن يعيشها. وقد يحاكي كلماتنا، لكنه لن يحمل أوجاعنا وظلالها وفحواها.
وفي آخر السطر، حين تطفأ الشاشات وتبقى الكتابة، لن ينجو إلا من ظل إنسانا وهو يكتب. ــ الدستور