د. محمد العرب : يا ليتني كنت كركياً

هناك اماكن اكثر من رقعة جغرافية، هي بمثابة شيفرة كونية تتجسّد فيها طبائع البشر، وتتمازج فيها الجغرافيا مع الأخلاق، والتضاريس مع القيم
بعض المدن لا تعيش في الخرائط، بل في السلوك وبعضها الآخر لا يُقاس بعدد سكانه، بل بوزن أبنائه وزن الرجولة، وزن المروءة، وزن الكبرياء.
في زمن باتت فيه الحدود أقفاصاً للروح، والجنسيات وِسَماً يُشبه الأصفاد، تبدو الكرك استثناءً نادراً: مدينة تمشي على الأرض، وتعيش في السماء لا تُحدّها الأسلاك الشائكة، ولا تنتمي إلى الحاضر وحده، بل تسكن في عمق الزمن كأنها توقّفت عند نقطة ذهبية من التاريخ ورفضت أن تنحدر.
فيا ليتني كنت كركياً لا لأتزين بالاسم، بل لأتقمص الخصال، لا لأحمل البطاقة، بل لأحمل المبادئ، لا لأعيش فيها، بل لأجعلها تعيش فيّ. الكرك اكثر من مدينة أردنية إنها تجربة إنسانية خالصة في العنفوان، هي تلك المدينة التي تجيد الصمت حين يكون الكلام خيانة، وتجيد الكلام حين يكون الصمت جبناً. فيها يُولد الطفل وفي دمه مضغة من الكرامة، وفي عينيه جمر من الكبرياء، وفي خطواته وعود قديمة لا يعرف من أين ورثها، لكنه يفي بها.
ليس غريباً أن يُقال عن الكرك إنها بلد السيف لا القلم، والنية لا الحيلة، والعزة لا الذلة، وليس مبالغاً حين ترى في الكرك شيئاً من الميثولوجيا كأنها بنتُ فارسٍ عربيٍ نزل من صهوة التاريخ، وغرسَ رمحه في الأرض وقال: هنا أكون.
في الكرك، لا يجوع الضيف بل إن الجوع نفسه يأنف أن يدخلها، وفي الكرك، لا يُهان الضعيف، لأن من يملك قلباً كركياً يرى في حماية المظلوم واجباً لا خياراً
ولعل أعمق ما في الكرك، أنها لا تتجمّل. لا تحاول أن تكون مدينة عصرية مُزيفة، ولا تركض خلف بهرجة الحداثة السطحية. الكرك مدينة صريحة، كصوت فارسٍ يُنذر خصمه في وضح النهار، لا تبيع نفسها على الأرصفة، ولا تتزيّن لتنال رضا أحد. المرأة في الكرك تمشي ورأسها مرفوع، لأنها ابنة بيت لا يُهان، ورجالها يعرفون أن الكرامة لا تقتصر على الذكور، بل هي ميراثٌ يتوزعه الجميع.
الشباب الكركي حين يتكلم، تشعر أنه يروي حكايات سمعها من جدّه، لا من منصات التواصل وكأن كل واحد فيهم يحمل على كتفه خريطة غير مرئية من معارك ونخوة وصبر وعزّة، رغم حداثة سنه. أما الشيوخ في الكرك، فهم لا يشيخون بل يُشبهون الحجارة القديمة في القلاع، تقف شامخة رغم العواصف، صلبة رغم عوامل الزمن.
حتى الموت في الكرك لا يُشبه غيره. حين يموت الكركي، لا يُرثى بكلمات، بل يُرثى بصمت مهيب، كأن المدينة بكاملها تنكس راياتها لساعة من الزمن، ثم تعود مرفوعة لأن الراحل ترك خلفه من يشبهه. هل عرفت الآن لماذا قلت: يا ليتني كنت كركياً ؟ لأنني أعيش في عالمٍ يتغيّر مع الريح، وأشتاق إلى ثبات الأصل، وصلابة الجذر، وبسالة القيم.
في الكرك، لا تنبت الخيانة لأنها تُخنق قبل أن تنمو، في الكرك، لا تُسَوَّق المبادئ، لأنها غير قابلة للبيع، في الكرك، لا تذوب الرجولة في الموضة، ولا تنكسر القيم تحت ضغط الواقع. يا ليتني كنت كركياً لا لأنني أشتهي الانتماء، بل لأنني أتوق إلى المعنى، لأن الكرك ليست انتماءً جغرافياً، بل هي عقيدة أخلاقية، ومدرسة في الشهامة، ومنجم للرجال الذين لا يتكررون. ولو كانت المدن بشراً، لكانت الكرك فارساً لم ينزع سيفه رغم السلام، ولو كانت السماء تُمطر خِصالاً، لكان المطر في الكرك يمطر وفاءً لا ماء.
في الكرك، تعلمتُ أن الفقر ليس عيباً، بل أن العيب أن تهون، وأن المال لا يصنع مقاماً، بل إن المقام يُبنى على الهيبة لا الحساب.
يا ليتني كنت كركياً كي أقول للزمن: مرّ من هنا، لكنك لن تُغيّرنا، وكي أقول للخرائط: قد ترسمون الحدود، لكن الكرك ترسم النفوس، الكرك، التي لم تكتب عنها المناهج ما يكفي، ولم تُحكِ عنها القصائد ما تستحق.
هي المدينة التي تُثبت أن الإنسان حين يكون عظيماً، يُصبح موطناً، لا مواطناً فقط.
سلاماً على الكرك وسلاماً على كل من تشبهها.