اسماعيل الشريف يكتب : وماذا بعد؟

نحن نعيش في جزء من العالم لا تُحتسب فيه العواطف؛ فكل شيء يدور حول المصالح - عبد الله الثاني ابن الحسين.
في خمسينيات القرن الماضي، وفي وقتٍ كانت فيه المنطقة تبحث عن هوية، وتعاني الانقسام والاستعمار، وتبحث عن قيادة موحدة تواجه المشروع الصهيوني بعد احتلال فلسطين، برزت إذاعة «صوت العرب» بوصفها لسان حال الرئيس جمال عبد الناصر. لقد حققت له ما لم تحقّقه الدبابة، فحرّكت الجماهير، وأشعلت الثورات، وهاجمت الخصوم. لكن حين لجأ إلى الدبابة والطائرة وحدهما، مُني بالخسائر.
في المقابل، كان الأردن آنذاك، كما هو اليوم، صوت العقل والحق. لكن في ظل زخم صوت أحمد سعيد المدوي، لم يتمكّن من إيصال وجهة نظره إلى الشارع العربي، فغلبت العاطفة على الحكمة، وكانت النتائج مزلزلة على الأمة العربية... فخسرنا القدس. ومنذ ذلك الحين، لم يتغير الكثير.
ما زال الأردنيون يشعرون بالظلم. فالأردن ظلّ دائمًا واقفًا إلى جانب الإجماع العربي، داعمًا لكل القضايا العربية، حتى وإن كان ذلك على حساب مصالحه، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ورغم هذا الموقف الثابت، يتعرّض للهجوم مرارًا، ويُصوَّر ـ ظلمًا ـ وكأنه يقف في الجانب الخطأ، بينما هو في الحقيقة يقف في الخندق الصعب: خندق المبادئ لا المزايدات.
في قصة الخبر السخيف الذي نشره موقع «ميدل إيست آي»، والذي ادّعى فيه زورًا أن الأردن يتكسب من المساعدات الإنسانية المُرسلة إلى غزة، تصدّت الهيئة الخيرية الأردنية الهاشمية لهذا الادعاء بالأدلة والبراهين، كما دحضته وسائل الإعلام المحلية، وهبّ كتّاب الأعمدة دفاعًا عن الوطن ومواقفه الثابتة. بعض الردود جاءت على شكل تعبير عن المظلومية التي يشعر بها الأردنيون، وأخرى اتخذت طابع البكائيات الإعلامية التي لا تغيّر واقعًا ولا تردّ هجومًا. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بعد هذه الحملة الممنهجة هو: وماذا بعد؟ إلى متى سنظل نردّ، وننفي، ونُهاجَم؟ ألم يحن الوقت أن نهاجم بدلًا من أن ندافع؟ أما آن الأوان لأن يمتلك الأردن منبرًا إعلاميًا خارجيًا قويًا، لا يكتفي بالدفاع، بل يبادر بصناعة الرواية وتوجيه الرأي العام العربي والدولي؟
كانت الفكرة موجودة، بل قطعت شوطًا كبيرًا في التخطيط، والمبنى المهجور الذي لا يزال قائمًا حتى اليوم يشهد على ذلك. لكن المشروع لم يرَ النور، إذ ساد التخوّف من أن لا يحتمل الأردن كلفته السياسية، في ظل سياسة خارجية تقوم على الوقوف إلى جانب الإجماع العربي، والحفاظ على مسافة واحدة من جميع الأشقاء. وقد خُشي حينها أن تُفهم هذه القناة الإعلامية كخطوة تتعارض مع هذا التوجّه الحذر والمتوازن.
الإعلام الأردني غارق في المحليّة، وهذا ليس عيبًا في حدّ ذاته، بل هو انعكاس لدوره الطبيعي في خدمة المجتمع ونقل همومه اليومية. ولكن، إلى جانب هذا الإعلام المحلي القوي، نحتاج أسوة بدول العالم إلى مؤسسات إعلامية عابرة للحدود، تُحسن صورتنا، وتمارس قوتنا الناعمة، وتواجه السرديات المعادية. فالأردن ليس بمنأى عن الحملات المشبوهة، وهناك قوى إقليمية ودولية، يتصدّرها الكيان الصهيوني، لا تريد له الخير، بل تضيق ذرعًا بمواقفه من القدس وفلسطين، وتسعى لتقويض دوره وإضعاف صوته.
والأمثلة على وسائل الإعلام الخارجية الناجحة لا تنتهي. فهناك BBC البريطانية، وFrance 24 الفرنسية، وRT الروسية، والجزيرة القطرية، والعربية السعودية، وحتى المنار التابعة لحزب الله، وكلّها أدوات ناعمة تمارس التأثير، وتخدم المصالح الوطنية لدولها . لذلك، فإن المطلوب اليوم أن يمتلك الأردن قناةً فضائية ناطقة بلغات متعددة، تعبّر عن مواقفه وتُعرّف العالم بدوره، وأن يُطلق موقعًا إلكترونيًا يصدر من عمّان ويخاطب الجمهور الدولي بلغته وأدواته. وأعلم أن الحكومة مشكورة تدعم الإعلام الإلكتروني للصحف الأردنية، خصوصًا تلك الناطقة بالإنجليزية، ولكن هذا لا يكفي فالمحلية ستبقى الطاغية عليها.
ثم هناك وسائل الإعلام العربية المهاجرة، أو تلك الناطقة بالإنجليزية والتي تغطي شؤون المنطقة، وهي منصات تُخاطب الرأي العام العربي والغربي لكنها في الغالب تعاني ماليًا، إذ إن إيرادات الإعلانات لا تكفي لتغطية نفقاتها، مما يجعلها عرضة للتأثير من خلال شبكات العلاقات العامة والداعمين الخفيين. وفي كثير من الأحيان، تكاد تشتمّ خلف بعض خطوطها التحريرية الجهات التي تموّلها أو تؤثر فيها. لذلك، فإن المطلوب على الأقل حملة علاقات عامة منظمة ومبنية على الحرفية، تتواصل مع هذه المنصات وتبني قنوات تواصل مهنية، حتى إذا لم تدافع عنا، فلا تهاجمنا كذبًا وبهتانًا.
وبالطبع، لا يمكن أن نغفل ظاهرة «المؤثرين النرجسيين» الذين يمتطون منصات التواصل الاجتماعي، ويبنون حضورهم على الضجيج لا الحقيقة. يقدّم كثير منهم معلومات غير موثقة، ويعتمدون على ما يصلهم من شائعات وأقاويل، لا بهدف التحقق أو خدمة الرأي العام، بل لزيادة عدد المتابعين، ورفع الأرباح، ولو على حس اب المصداقية. إن التفاعل مع هؤلاء، وترك الساحة لهم بلا تصدٍّ، يضاعف الضرر، ويغذّي سرديات مشوّهة تُكرّر حتى تُصدّق.
وخلاصة القول: نحن بحاجة إلى رواية أردنية تُصاغ بوسائل حديثة، لا تكتفي بالتوضيح، بل تبادر بالتأثير.