الأخبار

د. محمد رسول الطراونة : تسونامي الأمراض غير السارية.. الواقع والتحديات والتوصيات

د. محمد رسول الطراونة : تسونامي الأمراض غير السارية.. الواقع والتحديات والتوصيات
أخبارنا :  

في ظل التحوّلات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية التي يشهدها العالم العربي، برزت الأمراض غير السارية كأحد أخطر التحديات الصحية في القرن الحادي والعشرين. تُعرف هذه الأمراض، مثل السكري وأمراض القلب والسرطان وأمراض الجهاز التنفسي المزمنة، بأنها طويلة الأمد وتتطور ببطء، وغالبًا ما ترتبط بعوامل نمط الحياة والبيئة. في الأردن، كما في العديد من الدول العربية، تشكّل هذه الأمراض عبئًا متصاعدًا على الأفراد والأنظمة الصحية، لا سيما في ظل الأزمات الإنسانية المتكررة التي تعصف بالمنطقة.

يستضيف الاردن وعلى مدى يومين وبتنسيق مشترك بين وزارة الصحة والجمعية الملكية للتوعية الصحية المؤتمر الإقليمي لإدماج خدمات الأمراض غير السارية في الاستجابات الإنسانية، ولظرف خاص لم أتمكن من تلبية دعوة الجمعية الملكية للتوعية الصحة التي وجهتها لاعضاء مجلس امناء الجمعية، فقد وجدت لزاما علي أن أسلط الضوء على معدلات انتشار هذه الأمراض، خطورتها، وأهم التوصيات المقترحة لمواجهتها.

من حيث معدلات الانتشار، فالواقع لا شك أنه مقلق جدا، إذ تشير بيانات منظمة الصحة العالمية إلى أن الأمراض غير السارية مسؤولة عن 74% من إجمالي الوفيات في العالم، لكن النسبة ترتفع في المنطقة العربية لتصل إلى 80%، وفقًا لتقارير إقليمية.

في الأردن، تُظهر احصاءات وزارة الصحة لعام 2022 أن 38% من الوفيات تُعزا إلى أمراض القلب والأوعية الدموية و12% من السكان البالغين مصابون بمرض السكري، مع توقعات بارتفاع النسبة إلى 20% بحلول 2030، السرطان يحتل المرتبة الثالثة في أسباب الوفيات، مع تسجيل 16% من الوفيات مرتبطة به. أما على المستوى العربي، فتتصدّر دول الخليج نسب الإصابة بالسكري (نحو 25% في السعودية والإمارات)، بينما تعاني دول مثل مصر ولبنان من ارتفاع معدلات السمنة (تصل إلى 35% بين البالغين)، وهي أحد أهم العوامل المسببة للأمراض غير السارية. ولا يقتص? الأمر على الفئة العمرية الكبيرة؛ فالاتجاهات الحديثة تُظهر إصابة الشباب بأمراض مثل ارتفاع ضغط الدم والسكري بنسب غير مسبوقة، نتيجة نمط الحياة غير الصحي.

إن الخطورة من الامراض غير السارية تشكل عبئاً ثلاثي الأبعاد، ولا تقتصر الخطورة على ارتفاع معدلات الوفيات فحسب، بل تمتد إلى تأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية، خاصة في دول تعاني من الهشاشة السياسية والاقتصادية.

اقتصادياً، تُقدّر تكلفة علاج الأمراض غير السارية في الأردن بنحو 1.5 مليار دولار سنويًا، ما يشكّل ضغطًا على نظام صحي يعاني أصلاً من نقص التمويل، خاصة مع وجود اللاجئين السوريين الذين يعاني 15% منهم من أمراض غير سارية (مزمنة). وفي العالم العربي، تُنفق الحكومات ما يصل إلى 7% من الناتج المحلي الإجمالي على الرعاية الصحية المرتبطة بهذه الأمراض.

كيف يتم التفاعل مع الأزمات الإنسانية؟ في ظل النزاعات وحركات النزوح، مثل تلك في سوريا واليمن وليبيا، يصبح الوصول إلى الأدوية المزمنة (مثل الإنسولين) صعبًا، مما يزيد من معدلات المضاعفات والوفيات.

اجتماعياً، تفاقم هذه الأمراض من الفقر، حيث تُجبر الأسر على إنفاق مدخراتها على العلاج، بينما تقل إنتاجية الأفراد المصابين، مما يعوق التنمية.

في ضوء انعقاد هذا المؤتمر الإقليمي، تبرز الحاجة إلى استراتيجيات عملية تعالج الجذور وتتكيف مع تعقيدات المنطقة، ولعلها مناسبة ان نضع بين يدي القائمين على هذا المؤتمر بعض التوصيات من ابرزها: تعزيز الرعاية الصحية الأولية من خلال دمج فحص الأمراض غير السارية في الخدمات الصحية الروتينية، خاصة في المخيمات والمناطق النائية، و تدريب الكوادر الطبية على إدارة هذه الأمراض في ظل الظروف الإنسانية الطارئة.

ولضمان استمرارية العلاج، يتوجب إنشاء مخزون استراتيجي من الأدوية الأساسية (مثل الإنسولين وأدوية الضغط) في المناطق المعرضة للأزمات. ولا بد من الاهتمام بالتوعية المجتمعية من خلال تصميم حملات توعية تستهدف اللاجئين والمجتمعات المضيفة، بحيث تركز على الوقاية عبر تغيير الأنماط الغذائية ومكافحة التدخين، مع ضرورة إشراك القادة الدينيين والمؤثرين الاجتماعيين في نشر الرسائل الصحية. يمكن ايضا تبني سياسات وقائية عابرة للقطاعات يتم من خلالها فرض ضرائب على المشروبات الغازية والمنتجات عالية السكر، كما فعلت السعودية والإمارا?. وكذلك اهمية تحسين البنية التحتية لتشجيع النشاط البدني، مثل إنشاء مسارات آمنة للمشي في المدن.

ولغايات جمع البيانات ورصد التقدم المحرز، تبرز الحاجة الى تطوير أنظمة إلكترونية لتتبع حالات الأمراض غير السارية بين النازحين، بالتعاون مع منظمات مثل المفوضية السامية للاجئين، وإجراء دراسات بحثية مشتركة بين الدول العربية لفهم العبء الحقيقي لهذه الأمراض.

خاتمة الكلام؛ إن مواجهة تسونامي الأمراض غير السارية في الأردن والعالم العربي ليست مسؤولية القطاع الصحي وحده، بل هي قضية تتطلب تعاونًا بين الحكومات ومنظمات الإغاثة والمجتمع المدني. يجب أن تكون الاستجابات الإنسانية مُعدّة مسبقًا لاحتواء هذه الأمراض، تمامًا كما تُعدّ لمواجهة الكوارث الطبيعية.

في هذا السياق، آمل ان تكون توصيات المؤتمر الإقليمي فرصة لتحويل التحديات إلى فرص عبر سياسات مستدامة تحمي صحة الأجيال الحالية والمقبلة. فالصحة ليست ترفًا، بل هي أساس الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي في المنطقة.

أمين عام المجلس الصحي العالي السابق

مواضيع قد تهمك