د. اميرة يوسف مصطفى : الأردن: وطن لا يُختبر بالبقاء بل يُقاس بوعيه

في زمن تتسارع فيه التحولات وتضطرب فيه الثوابت، يظل السؤال عن الوطن ومعناه سؤالا لا يحتمل التأجيل، في لحظة تاريخية يتآكل فيها الإقليم وتتعرض فيها الهويات للطمس والتشويه، ويغدو التمسك بالمضمون الأخلاقي والوطني للدولة الأردنية فعلا سياديا بامتياز، لا أقل شأنا من أي قرار سياسي أو إصلاح اقتصادي.
ليست الأزمة في الأردن مجرد أرقام تتناقص في الاحتياطي أو ترتفع في البطالة، ولا هي في مؤسسات يطلب منها الكثير وتملك القليل، بل في جوهر العلاقة بين المواطن والدولة: من نحن؟ وكيف نمارس وطنيتنا؟ وما الذي يجعلنا نتمسك بهذا المكان كجزء من ذواتنا، لا كمجرد عنوان إقامة؟
الخطأ المتكرر في كثير من الطروحات أننا نقيس الأردن بلغة الأرقام المجردة، نلاحق العجز والمديونية، ونغفل عن رأس المال الأهم الذي هو تماسك المجتمع وحسه الأخلاقي ورفضه العميق للفوضى، هذا الوعي هو ما حافظ على الأردن في لحظات كان من المتوقع أن يتصدع فيها، بينما انهارت دول كانت أكثر غنى وعددا.
فالدولة هنا ليست جهاز حكم فقط بل انعكاس لما نحن عليه كأفراد ومجتمع وإذا تراجع الأداء؛ فلأن كثيرين اكتفوا بالتذمر لا بالمشاركة، وإذا خفت صوت الإصلاح؛ فلأن الصوت العام ارتضى الصمت أو الانقسام، ونحتاج اليوم إلى إعادة تعريف المواطن بوصفه شريكا لا متلقيا، ومسؤولا لا متفرجا، وفاعلا لا ضحية.
الانتماء الحقيقي لا يقاس بالكلمات بل بالأفعال الصغيرة، حين نرفض الفساد في محيطنا، وحين نحترم القانون حتى في غياب الرقيب، وحين نربي أبناءنا على أن المصلحة العامة لا تتجزأ، فهذا هو جوهر المواطنة وهو الأساس لأي نهضة حقيقية تتجاوز الخطابات الموسمية.
وفي خضم التحولات الإقليمية القاسية يصبح الحفاظ على الهوية الوطنية الأردنية أمرا استراتيجيا لا عاطفيا، هذه الهوية ليست شعارا بل بنية وعي، ونسيج من الذاكرة والأخلاق والسيادة، وليست قيدا على التنوع بل إطارا يضمن ألا يستخدم التنوع كأداة للتمزيق أو للتشكيك، وهي ليست امتيازا لأحد وإنما مسؤولية على الجميع.
لقد أثبت الأردن -رغم الصعوبات والضغوط- أنه ليس تجربة عابرة ولا مشروعا مؤقتا، ولكنه وطن راسخ السيادة، تشكل بالحكمة وبالفعل وفرض له مكانة تقاس بالاعتدال والاتزان، لا بضجيج الشعارات أو الادعاءات الفارغة، وما نحتاج إليه اليوم هو تمتين هذه المكانة عبر تعزيز العلاقة بين الدولة ومواطنيها، على قاعدة من الثقة المتبادلة والصدق في الطرح، والمشاركة الواعية في رسم السياسات وصناعة المستقبل، باعتبارها مسؤولية وطنية مشتركة لا تكتمل إلا بتكامل الأدوار وتوحد النوايا.
فالأوطان لا تهتز فقط من الخارج بل حين يفقد أبناؤها الإيمان بها، أو حين يصبح الخلل قاعدة مقبولة لا استثناء مرفوضا، ومن هنا فإن استعادة المسؤولية الأخلاقية للمواطن بوصفها جزءا لا يتجزأ من أمن الدولة واستقرارها، باتت ضرورة وجودية تسبق المطالب الإصلاحية، وتمهد لها في الوعي والسلوك والممارسة.
إن الأردن لا يقاس بطول عمره فقط وإنما بقدرة شعبه على أن يرفعه في وعينا لا في شعاراتنا، وكل فرد مهما كان موقعه معني بصيانة هذه القيم، لا لصالح الدولة فقط وإنما لصالح ذاته ومصيره. وحين نؤمن بأن لكل واحد منا مسؤولية تتجاوز حدود المصلحة الشخصية، يصبح الأردن أكثر من وطن... يصبح رسالة حية نكتبها كل يوم في ضمائرنا قبل أن تكتب في كتب التاريخ. ــ الدستور