د. محمد العرب : الوعي المضلل: هل أنت أنت؟

تفتح عينيك كل صباح، تجر جسدك من فراش الأمس، وتظن أنك ما زلت الشخص ذاته الذي أغمض جفنيه الليلة الماضية !
لكن في تلك اللحظة الهشة بين الحلم واليقظة، يختل ميزان اليقين لتسأل نفسك بصمت: من أنا اليوم؟ هل أنا استمرار لذلك الأنا الذي كنته بالأمس، أم أن ذاتي تتجدّد كأنها قناع يرتديه وعي مضلّل كل فجر؟ في أعماقك صوت خافت يتساءل: هل أنت أنت؟
ترمق وجهك في المرآة فتجد ملامح مألوفة، لكنّ العيون تحدق إليك بغرابة وكأنها لشخص آخر. هل مرآتك تعكس حقيقتك أم أنها بوابة لوهم أتقن تقليدك؟ تلامس الزجاج بأطراف أصابعك فيفصلك عنه برودته الصلدة ، ذلك الوجه خلف السطح اللامع يحاول أن يخبرك شيئاً ، ابتسامة باهتة ترتسم وتتلاشى، وكأن الكيان خلف الزجاج يسأل هو الآخر: من أنت؟ أأنت النسخة الأصلية أم الظل؟ أيكما صاحب الوعي وأيكما صنيع الخيال؟
تمضي في يومك محاطاً بألفة الأشياء المعتادة، الجدران، الشوارع، الوجوه العابرة وكل شيء يبدو طبيعياً حتى تلك اللحظة الخاطفة التي يتعرى فيها الواقع من قشوره. ربما وأنت تسير بين الناس شعرت لوهلة أن العالم من حولك مسرح، وأن الجميع يؤدون أدواراً مكتوبة بعناية ، نظراتهم، كلماتهم، وحتى ضحكاتهم، تبدو وكأنها صدى لشيء ما وراء الستار، وكأن همساً خفياً يلقّنهم ما ينبغي أن يفعلوه ، ترتجف داخلك فكرة مُريبة: هل أنا الوحيد الحقيقي هنا؟ أم أنني الوحيد الزائف بينهم، مجرد وهم يتقمص هيئة إنسان؟
تستعيد ذكرى بعيدة مرت بخاطرك هذا الصباح. تذكر موقفاً في طفولتك، لكنه يأتيك كالصورة الباهتة؛ تتساءل إن كان قد حدث حقاً أم أنك اختلقته بمرور الزمن !
كثيراً ما نخدع أنفسنا بذكريات مزيفة، وقلوبنا تصدق الحكاية. وربما يراودك أحياناً شعورٌ غريب بأنك عشت لحظةً ما من قبل؛ فهل يكون ذلك صدى ذكرى سابقة أم مجرد خديعة أخرى من العقل وتلاعب بالزمن؟ أليس غريباً أن تكون هوية الإنسان مبنية على حكايات الذاكرة؟ فإذا كانت الذاكرة وعياً مخادعاً ينسج القصص ليمنحنا شعوراً بالاستمرار، فهل تظل (أنت) ذلك الشخص إن بدّل الزمن رواياته؟ وإذا فقدت شطراً من ذكرياتك يوماً ، أتنقص ذاتك؟ أم أنك ببساطة تصبح قصة جديدة يرويها عقلك؟
في زحمة الأفكار هذه، يثور سؤال مقلق: ما حدود الوعي؟ أين تنتهي ذاتك وتبدأ الظلال المحيطة بك؟ ربما نعتقد أن وعينا محصور داخل جماجمنا، لكن ماذا لو كان منتشراً خارجها كشعاع يتماهى مع العالم؟ ربما يكون وعيك غرفة ذات مرايا لا نهائية، تعكس كل منها جانباً مختلفاً منك ومن الآخرين. هل تلك الأفكار الداكنة التي تراودك ليلاً هي حقاً أفكارك، أم أنها همسات غريب يسكن لاوعيك؟ في التحليل النفسي نقع على أجزاء مخفية من أرواحنا، رغبات مكبوتة، مخاوف طفولية، ووجوه أخرى لشخصيات نكبتها في الظل. فهل نستطيع حقاً أن نقول (أنا) ونحن نجهل نصفنا المظلم؛ أم أن وعينا ذاته ليس سوى ومضة في حلمٍ كونيٍّ لا ندركه؟
يساورك شكٌ مفاجئ وأنت تحدق في سقف غرفتك عند منتصف الليل. السكون يثقل الهواء، وظل خافت يرتجف على الجدار يوحي بأن أحداً يراقبك. تسمع نبضات قلبك وتتساءل: هل أنا وحيد؟ أم أن ذاتي الأخرى تسترق النظر إليّ من زاوية مظلمة؟ يخيّل إليك أن ثمة عين ثالثة مفتوحة في داخلك، ترقبك بفضول كما يرقب العقل جسده وهو نائم. تنتابك قشعريرة وأنت تدرك أن وعيك قد يكون سجيناً ، وأن هناك من يتلاعب بمصائر أحلامك وذكرياتك. ربما لست سوى دمية أفكار في يد سيناريست كوني خفي، يخط لك تفاصيل حياتك كما يشاء.
ترفع يديك أمام وجهك في العتمة، تحرك أصابعك ببطء. من يتحكم في هذه الحركة الآن؟ أهو الأنا الواعية ، أم برمجيات خفية في دماغك تدير المشهد من خلف الستار؟ إن كان عقلك قادراً على أن يتحرك بك دون إدراكك الواعي في معظم الأحيان، فكيف تثق أن زمام نفسك بيدك حقاً؟ كثيراً ما تقودنا العادة وردود الفعل التلقائية؛ كأننا نسير نياماً في وضح النهار، نتصرف بلا وعي حقيقي للحظة. كم مرةً وصلت إلى وجهةٍ ما دون أن تتذكر تفاصيل الرحلة؟ عقلك كان يتولى القيادة في المسار المألوف بينما بقي وعيك شارداً في عوالم أخرى. أيمكن أن تكون حياتنا سلسلة من الاستجابات المبرمجة، ونحن واهمون بأن لدينا الخيار والإرادة الحرة؟ أم أن هناك وعياً أكبر يحرّكنا كجنود شطرنج على رقعة واقع مزيف؟
ها أنت ذا تحاول أن تغفو مجدداً ، لكن الأسئلة تطاردك ككوابيس يقظة. تنصت إلى صوت أنفاسك، تحاول التحقق أنك ما زلت هنا، في هذه اللحظة وهذا الجسد. لكن ما هذه الـ (هنا) إلا فكرة ينسجها عقلك لتثبيت قدميك على أرض الوهم. ربما يكون الواقع جسراً ضيقاً بين حلمين، وأنت تعبره متأرجحاً بين الشك واليقين. تغمض عينيك فتداهمك مشاهد مبهمة: وجوه بلا ملامح، أصوات تنادي باسمك من بُعد سحيق, ومرآة تتشظى إلى ألف انعكاس. كل انعكاس منها ينظر إليك متسائلاً : هل أنت أنت؟ أم أنك شبح فكرة تظن نفسها إنساناً؟
في نهاية المطاف، تفتح عينيك مذعوراً ، قلبك يخفق كطائر حبيس في قفص. تستند إلى الواقع الملموس من حولك: السرير، الجدار، ضوء القمر المتسلل. تحاول أن تتمسك بما تعتقده يقيناً ، لكن الشك يتسلل من جديد كظلٍ لا يفارقك أبداً وربما لن تجد أبداً إجابة شافية وسيبقى السؤال معلقاً كالقمر خلف نافذتك، يرسل ضوءاً شاحباً على ليلك الطويل الخالي من النجوم والموحش. سيبقى الهمس يتردد في جنبات عقلك، ذلك الهمس الذي يسأل بلا كلل: هل أنت حقاً أنت؟