صالح سليم الحموري يكتب : ين كابوس "كافكا" وحلم الحكومة الرشيقة

تخيّل أنك تدخل دائرة حكومية، هدفك بسيط: الحصول على وثيقة رسمية. تبدأ رحلتك بثقة، فالأمر في ظاهره بسيط. تسأل الموظف الأول، فيشير إلى قسم آخر. تذهب إلى هناك، فيخبرونك أن عليك العودة إلى البداية. تبحث عن المسؤول، لعلّك تختصر الطريق، فيقال لك: "ليس هناك مسؤول محدد."
تمضي الأيام وأنت تدور في دائرة مغلقة، تفقد خلالها الشعور بالاتجاه، ويتسلل إلى قلبك ذلك الإحساس الغريب بأنك عالق في مشهد من رواية قديمة، حيث العبثية لا نهاية لها، والحلول سراب يتبدد كلما اقتربت منه.
هذا المشهد ليس غريبًا على كثيرين. إنه ما يمكن وصفه بحالة "الكافكاوية"، التي أصبحت في أحيان كثيرة عنوانًا خفيًا يختبئ خلف البيروقراطية الحكومية.
فرانز كافكا، الكاتب التشيكي الذي صارت أعماله مرآة لهذا الإحساس الوجودي المعقد، لم يكتب عن البيروقراطية الحكومية تحديدًا، لكنه وصف بدقة تلك الحالة النفسية التي يعيشها الإنسان حين يجد نفسه في مواجهة قوى غامضة، وأنظمة معقدة، وقواعد مبهمة، تجعله يشعر بالضياع والعجز أمام واقع لا يفهمه ولا يستطيع تغييره.
والمفارقة المضحكة المبكية أن حتى الوزير قد يشكو أحيانًا من البيروقراطية داخل وزارته! وكأن هذه المتاهة الإدارية تبتلع الجميع بلا استثناء — من المواطن البسيط إلى صانع القرار ذاته.
الكافكاوية، إذن، ليست مجرد وصف لحالة معقدة، بل هي إحساس خانق بالخضوع إلى نظام غير مرئي، يبدو وكأنه صُمم خصيصًا لتعقيد الأمور بدل تبسيطها. وللأسف، يعيش كثير من الناس هذا الشعور يوميًا كلما دخلوا إلى دهاليز الإجراءات الحكومية، التي وُجدت في الأصل لخدمتهم وتيسير حياتهم، لا لتعقيدها.
ليست المشكلة في وجود النظام الإداري بحد ذاته، فالإدارة الفعّالة ضرورية لضمان الحقوق وتنظيم المصالح العامة. لكن الخلل يبدأ حين تتحول الأنظمة من أدوات لخدمة الإنسان إلى غابة من اللوائح المتشابكة، والمراجعات التي لا تنتهي، والانتظار الذي يستهلك أعمار الناس قبل أن يُنجز المطلوب.
وحين يصبح المواطن بحاجة إلى "وسيط" لفك طلاسم الإجراءات، أو يشعر أنه يسير في دهاليز بلا نوافذ ولا مخارج، نكون أمام لحظة مراجعة جوهرية: هل خدمت البيروقراطية أهدافها؟ أم تحولت إلى عبء على المواطن والدولة معًا؟.
هناك دائمًا مخرج. حتى في "عالم كافكا القاتم"، هناك شعاع أمل ينتظر من يراه. الخروج من المتاهة الإدارية يتطلب شجاعة في تبسيط الإجراءات، وجرأة في إعادة تصميم الرحلة التي يمر بها المواطن عند طلب الخدمة.
الحلول تبدأ من:
• اختصار المسارات الطويلة إلى خطوات واضحة وبسيطة.
• إعادة التفكير في دور الموظف، ليكون دليلًا ومساعدًا للناس، لا منفّذًا جامدًا للروتين.
• تمكين التكنولوجيا لتكون جسرًا يربط بين الحكومة والمواطن، لا حاجزًا يفاقم العزلة.
• وقبل كل شيء، ترسيخ ثقافة أن الحكومة وُجدت "لخدمة المواطن"، لا أن يكون المواطن ضحية لإجراءاتها.
إذَن، نحن أمام حاجة ملحّة إلى "تصفير البيروقراطية" في الإجراءات الحكومية، بل وأكثر من ذلك: نحن بحاجة إلى مؤسسات "حكومية رشيقة"، تستشرف المستقبل بوعي، وتتبنى إجراءات مرنة، وتبتكر في أساليب تقديم خدماتها. مؤسسات تتعاون بانسيابية مع غيرها من الهيئات، وتقدّم خدمات سريعة وفعّالة، تجعل رضا المتعاملين معيارها الأول، وتصنع من كل تجربة حكومية قصة نجاح لا عبئًا يُثقل كاهل الناس.
في عالم سريع التغير، لا مكان لبيروقراطية تجعل الناس أسرى للانتظار والتيه. "الحكومات الرشيقة" اليوم تعرف أن "الزمن" هو أغلى ما يملكه الإنسان، وأن "الثقة" تُبنى بخطوة بسيطة تختصر الوقت، وتعيد للمواطن الشعور بأن هناك من يفهمه ويساعده.
لنجعل من رحلتنا الإدارية تجربة ميسّرة، مُلهمة، تعيد للناس الثقة بأن "الحكومة تعمل معهم، لأجلهم، وبهم." ولنجعل من كل إجراء حكومي قصة نجاح... لا متاهة بلا نهاية.
*صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية