الأخبار

المهندس عامر البشير يكتب : في انتظارِ زمنٍ لم يأتِ بعد

المهندس عامر البشير يكتب : في انتظارِ زمنٍ لم يأتِ بعد
أخبارنا :  

الدكتور محمد البشير
كما لم يُقرأ من قبل،
في مئوية ميلاده، الحلقة الثانية والاخيرة 
قراءةٌ في ضميرٍ
لم يُفكَّر فيه من الهوامش،
بل من صميم القلب والوجدان.

لم يكن الدكتور محمد البشير طبيبًا بالمهنة فقط، بل ضميرًا يقاوم الألم بالوعي، ويرى في الجسد مرآةً لكرامة الإنسان، لم تكن ميادين الطب عنده مجرّد مساحةٍ للعلاج، بل منبرًا للوطن، يسمع فيه أنين الناس كنبضٍ يستحق الإصغاء، وكما رفض اختزال الإنسان في جسده، رفض اختزال الوطن في حزب أو شعار، لأن الوطن عنده أكبر من كل العناوين، وأبقى من كل الطموحات العابرة، آمن بأن الدولة جسدٌ لا ينهض إلا بالعدل والرؤية.

حين تولّى المسؤولية في الحكومة، لم يُغره البريق، بل خاضها بضمير الحالم ونقاء الفكرة، رأى في الوزارة اختبارًا للفكر أمام الواقع، وفي الدولة كائنًا لا يليق به إلا الصدق والعدالة، لم يكن فكره السياسي منفصلًا عن نبضه الإنساني؛ لم يرَ السياسة مكيدة، ولا السلطة غنيمة، بل أخلاقًا وأمانة، حيث الإنسان هو جوهر القرار لا ذيله، تجربته لم تكن نُزهةً فردية، بل امتحانًا لجيلٍ بأكمله.

لن أكتب عن الدكتور محمد البشير هنا ببرود المؤرِّخ، ولا بحياد المراقب، ولا بعاطفة الابن، بل بعين صقلتها التجربة، وقلب سكنته التساؤلات، سلطة الدولة، جدلية الهوية، تعريف المواطنة، دور المثقف، وكيف يتشكّل الوعي؟
لم يكن البشير سياسيًا فقط، بل صوتًا نادرًا في زمن الضجيج، وضميرًا حيًّا رفض المساومة، خاض غمار الصراع لا ليجترّ الشعارات، بل ليصوغ المعنى من التجربة، بالصدق والاحتراق.

حين يُذكر اسم محمد البشير كحزبي، يُستحضر غالبًا في مشهدين اثنين، مشهد تأسيس حزب البعث عام 1947، ثم انسحابه منه بدايات ستينيات القرن الماضي،، وكأنهما بداية ونهاية، ولا شيء بينهما يُقال.
لكن هذا اختزالٌ جائر؛ فتجربته لم تكن لحظةً عابرة أو لقطةً جامدة، بل مسارًا واعيًا، صنعه بقراره وإرادته، عاش مخاض التأسيس، ثم خرج من قوقعة القطيع بعد الانقسام وغلبة المصالح الفئوية على المشروع القومي، وآخرها الانقلاب على الذات والتصفيات الجسدية.
لم يكن مراقبًا خارجيًا، بل ناقدًا من الداخل، عاش الصراع من موقع الشراكة لا اللامبالاة، فرفض المساومة على الجوهر، ورفض أن يغمض عينيه عن الانحراف.

عاش البشير أزمة الفكرة القومية العربية لا كمثقفٍ معزول، بل كابنٍ شرعيٍّ لها؛ حضر ولادتها، وابتعد عنها حين زاغت عن مسارها. ورغم تجميده لنشاطه الحزبي، ظل وفيًّا للبدايات، ولرفاقه الذين استقطبهم للمشروع، وظلّوا قابضين على جمر المبادئ.
العروبة عنده لم تكن شعارًا، بل روحًا حضارية تتّسع للجميع، مشروعَ وصل لا فصل، وهويةً لا تنغلق على ذاتها، بل تنفتح على العالم.

لم تكن الديمقراطية عنده صناديق اقتراع، بل عقدًا أخلاقيًا حيًّا بين الدولة والمواطن، لم يرَها قناعًا يُجمّل أنظمةً تدهس روح القانون، بل أساسًا يرتكز على العدالة والوعي الشعبي، لا على نُخَب تعيد إنتاج الاستبداد بصورٍ مختلفة.
ولم تكن الدولة في فِكرهِ عدوًّا للحرية أو صنمَ سلطة، بل إطارًا للتوازن، ومساحةً للمواطنة والكرامة، لم تُغره فكرة الهدم السريع، بل آمن بالبناء التدريجي من الداخل، لا من علٍ.

رغم أن ميثاق البعث كان ميّالًا لنموذج الأنظمة الجماهيرية، خالف محمد البشير هذا التوجّه بشجاعة من داخل الحزب، لأن المعيار عنده لم يكن الشكل، بل المضمون، وما يحمله الجوهر من قيمة.
قالها بوضوح، إن الملكية الدستورية الحقيقية — حين تتجذّر في مؤسسات ديمقراطية، ويُحترم فيها التداول السلمي للسلطة، ويترسّخ فيها الاستقرار الدستوري — تُقدّم نموذجًا أنضج من جمهوريات الانقلابات السلطويّة.
لم يكن خصمًا للجمهوريات، بل باحثًا عن الحرية والديمقراطية حيثما وُجدت، لا ببزّةٍ عسكرية.

في علاقته بالدين، رفض الابتذال كما رفض التوظيف السياسي، لم يتخذ من الدين شعارًا، بل اعتبره مسؤولية تُضيء ولا تُستغل. كان الإيمان عنده جوهرًا لا وسيلة نفوذ، ولا خطاب تعبئة.
لم يكن المثقف في نظره شاهدًا بعد الحدث، بل من يصنع الوعي قبله، ويضيء الطريق بسؤال الحقيقة لا بهتاف الجموع،
قاوم ثقافة التصفيق، وأصرّ على أن دور المثقف يتجاوز "التسحيج"، بل يكمن في التذكير، والنقد، وإشعال السؤال في وجه التواطؤ والنسيان.
لم يكن البشير خطيبًا سياسيًا، بل عقلًا نقديًا يرى الحاضر بعين المستقبل، لم يلهث خلف المجد الزائف، ولا تسلّق الشعبوية، بل فتّش عن الحقيقة، ورفض أن يكون شاهد زور في زمنٍ يُجمّل القمع.

وفي عصرٍ يكافئ الصمت ويطرد السؤال، يظل محمد البشير حضورًا حيًّا؛ صوتًا من زمنٍ لم يأتِ بعد، زمنٍ تتصالح فيه العروبة مع التعدّد، وتحتكم فيه الدولة لسلطة القانون، وتتّزن فيه السياسة بأخلاق الفكر لا بصراخ الغرائز.

تجربة محمد البشير علمتنا أنّ ازدهار الأحزاب القومية كان في زمنٍ فيه الفئات الوسطى المتعلّمة والطموحة حاملةً لمشروعها، لكنها اليوم تقف على أطلال مجدٍ تآكل، لا بفعل الرياح وحدها، بل بما اعتراها من جمود داخلي وشيخوخة فكرية.
إن إرث الإخفاق، وصراع القيادات، وتحالفات بلا جذور، وتداخل السلطات، وغياب الانسجام، وتهميش المختلف، وتآكل شرعية التمثيل، كلها علامات على أفول شكلٍ حزبيٍّ عجز عن التجدد، فتحوّل إلى عبء لا إلى أداة للتغيير.

كما أن الدكتور محمد البشير لم يكتب فكره على جدران الأيديولوجيا، بل نقش رؤيته على هوامش التجربة، بحبر الصدق في عصرٍ غارقٍ بالتزييف، مؤمنًا أن الدولة جسدٌ لا ينهض إلا بالعدل والرؤية.
وكان نسيج وحده في عصرٍ يكافئ الصمت ويطرد السؤال، سيبقى محمد البشير حضورًا حيًّا؛ صوتًا من زمنٍ لم يأتِ بعد، زمنٍ تتصالح فيه العروبة مع التعدّد، وتحتكم فيه الدولة لسلطة القانون، وتتّزن فيه السياسة بأخلاق الفكر لا بصراخ الغرائز.
لم يكن ابن هذا العصر، بل بشيرَ عصرٍ آتٍ — زمنٍ تُكرَّم فيه كرامة الإنسان لا أدوات السلطة، وتوزن فيه الهوية بالعقل لا بالعزلة، وتُقاس فيه السياسة بالضمير لا بموازين القوى.

هكذا كان والدي ...

* لمن لا يعرف الدكتور محمد البشير
(1925 – 1977)
وُلد في مدينة السلط، وسار في حياته كما تسير الرسائل الصادقة؛ لا تُكتب إلا بحبر الوطن، ولا تُختم إلا بتوقيع الضمير.
تخرّج طبيبًا من جامعة دمشق عام 1952 وتخصّص في الطب الشرعي في القاهرة، لكنه اختار أن يكون طبيبًا لأوجاع الوطن قبل أوجاع الجسد.
شارك في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1947، وانسحب منه في بدايات ستينيات القرن الماضي حين تلاشى الحلم القومي في أروقة السلطة.
شغل مناصب وزارية عدّة، وخلّد بصمته في وزارة الصحة، حيث قاد جهود القضاء على وباء الكوليرا عام 1976، واضعًا الصحة في قلب السياسات العامة.
كان حرًّا لا يُستدرج، مؤمنًا بعدالة اجتماعية لا تُساوِم، ومواطنة لا تُفرّق، رفض استغلال الدين، ودعا إلى ملكية دستورية من داخل حزبٍ لم يتسامح مع المعارضة.
استُشهد في حادث سقوط مروحية أثناء مهمة إنسانية رافق فيها الملكة علياء الحسين.
لكنه لم يغب، بل بقي حيًّا في ذاكرة وطنٍ لا ينسى من صدقوه، وفي وجدان كل من عرفوه طبيبًا، ومثقفًا، وسياسيًا نزيهًا لا يساوم.

مواضيع قد تهمك