د. نضال القطامين يكتب : تمارا، هل أشبهك بيوم صيفي؟ أنتِ أجمل وأكثر اعتدالا!!

في بلاد الإنجليز، حيث يجوب الجمال الشوارع ثم يغفو على ضفاف الأنهار، حيث يمتزج السحر بالتاريخ، والعراقة بالروعة والرونق، هناك في بلاد الضباب، على مدارج الجامعة، على خطى أسلافها الحكماء، أوفت تمارا بوعدها لأبي نضال، وحازت على درجة الدكتوراة في القانون...
وفِلْذَةُ كَبِدِي، تمارا، ليست سوى مزيج فريد وتوليفة رائعة من أهازيج الحصاد في سهول القمح على امتداد المغاريب المطلة على فلسطين، ومن قصائد شكسبير الخالدة. هي نتاج إرثين عظيمين، حيث يختلط في عروقها دم والدها العروبي الأردني، ودم والدتها الإنجليزية التي تنحدر من نسوغ عريقة. إنها توليفة الشرق والغرب المغلّفة بنقاء الذهب المصفّى، تلك التي تجمع بين دقة التحليل القانوني الغربي ووهج الحكمة والعاطفة العربية، بين صرامة العدل ورحابة الإنسانية، إنها ابنة الحضارتين.
كانت رحلة الدكتوراة شاقة؛ من عمان حيث أنهت دراستها الثانوية، ثم درجة البكالوريوس في القانون من جامعة بريستول في إنجلترا، ثم إلى إدنبره في اسكتلندا، المدينة العتيقة ومهد الفلسفة القانونية البريطانية، حيث نالت درجة الماجستير من جامعتها وساهمت كثيرا في تشكيل رؤيتها القانونية والفكرية، قبل ان تنتهي رحلة الدراسة في قلب لندن، حيث التحقت بجامعتها العريقة كوين ماري - جامعة لندن، إحدى أعرق وأقدم الجامعات في العالم، وهناك وضعت لمستها الأخيرة على هذا المشوار العلمي العظيم، لتتوج جهودها بالحصول على درجة الدكتوراة في القانون.
في طول هذه الرحلة وعرضها، عبر سنوات الكفاح والسهر والتعب التي غلفها الحلو والمر، الوحدة والبعد عن العائلة، أدركت تمارا أن العدالة ليست كما كنا نظنها، وأن القوانين التي بُنيت على مبادئ حقوق الإنسان أصبحت تُوظَّف بمعايير مزدوجة، تُطبَّق حيث تخدم المصالح، وتُنسى حين يُطالب بها الضعفاء، وأدركت كذلك رؤى جدها الملهم مرضي القطامين رحمه الله، الذي لم يكن يرى في القانون سوى سلاحًا للعدالة، وصوتًا للمقهورين، وطريقًا للخلاص من قيود الاستعمار والتفكك.
لم يكن أبو نضال مجرد داعمٍ لمسيرتها الأكاديمية، بل كان موجّهها الأول، يلهمها بأن تنظر إلى القراءة اولا والقانون لا كوسيلة مهنية فقط، بل كرسالة سامية تسهم في تحقيق العدالة في عالم يزداد ظُلمًا يوماً بعد يوم.
كان غارقًا في قضايا أمته، مؤمنًا بوحدتها، ناهضًا ضد الاستعمار بكل أشكاله، وكان يرى في القانون أداةً لتحرير الأوطان، وحماية الإنسان من الطغيان، وكان دوماً عروبيًا قوميًا حتى النخاع، عاش كل تفاصيل الصراع الذي مرت به الأمة، من نضالات التحرر إلى خيبات التمزق والانقسام. كان يرى كيف تفقد الأمة العربية بوصلتها وسط العواصف السياسية، وكيف تتبدد حقوقها تحت وطأة المصالح الدولية التي لم تكن يومًا عادلة.
لكنه كان دوما يجد وقتا كافيا ليقول لها أنها تستطيع أن تكون امتدادًا لهذا النضال، أن تكون صوته الذي يستمر، أن تحمل الراية في ميادين المحافل الدولية، حيث يُفرض الواقع ولا يُناقش، وحيث تُكتب القوانين وفق مصالح الأقوياء لا حقوق المستضعفين. كان سعيدًا باختيارها لهذا المجال، فالقانون في نظره لم يكن مجرد دراسة، بل أداة لصناعة التغيير.
لقد آمن دوما بأن العدالة هي في صلب الحضارة العربية والإسلامية وكان واثقاً أن دراستها للقانون في مهد القوانين الغربية ستكون تجربة ثرية، لكنها لم تكن ثرية وحسب، بل أيقظت في داخلها إدراكًا أعمق بأن العدالة لم تكن يومًا غريبة عن أمتنا العربية والإسلامية، بل كانت جزءًا أصيلًا من حضارتنا الممتدة عبر القرون، ولم تكن هذه الأرض يومًا بعيدة عن القانون، بل كانت دائمًا الحاضنة الأولى له.
منذ أيام الأنباط في البترا الذين أسسوا نظامًا تجاريًا وقضائيًا متطورًا، إلى دولة الإسلام التي وضعت أسس القضاء العادل، إلى عصر العلماء والفلاسفة الذين صاغوا أروع النظريات القانونية، كانت الأمة العربية الإسلامية تحمل لواء العدالة الحقيقية، التي لم تفرّق بين قوي وضعيف، ولم تكيل بمكيالين، بل جعلت الحق هو المعيار الأول والأخير.
واليوم، في خضمّ تسارع الأحداث السياسية، وفي ازدواجية تطبيق القوانين الدولية، تراجع إيماننا بعدالة الغرب. لقد كنا نظن أن هذه القوانين التي دُرّست في كبرى الجامعات الأوروبية وُجدت لحماية حقوق الإنسان، بل وحتى حقوق الحيوان، لكننا رأينا كيف أصبحت تُستخدم حسب المصالح، تُطبَّق حين يريدون، وتُهمل حين يكون المتضرر من أمتنا العربية والإسلامية.
اليوم نشهد كيف يُقتل الأبرياء دون محاكمة، وكيف تُنتهك حقوق الشعوب أمام أعين العالم، كيف تُشرعن الحروب وتُغتصب الحقوق تحت مظلة القانون، كيف أصبح الحق تابعًا للقوة، لا العكس، نجد أنفسنا أمام تحدٍ كبير.
وسط هذا القلق، تكبر مهمتك، يا تمارا، وتجسم وتعظم. الدكتوراة ليست مجرد شهادة تضاف إلى رصيدك الأكاديمي، بل هي رسالة يجب أن تُحمل بقوة وإيمان، فربما، ولو قيد أنملة، تستطيعين أن تكوني صوتًا للعدل في عالم أصبح يفتقده يومًا بعد يوم.
تمارا، ابنتي العزيزة، مشوارك في دراسة القانون من بلد القانون له أهمية كبرى، فالمعرفة الحقيقية بالقوانين التي تحكم العالم اليوم قد تكون المفتاح لمحاولة استعادة شيء من العدالة التي سُلبت منا. مهمتك اليوم ليست مجرد شهادة، بل رسالة، رسالة للدفاع عن حقوق هذه الأمة، عن حقها في العيش بحرية وكرامة، عن حقها في العدالة التي لطالما حُرمت منها في ساحات السياسة والمحافل الدولية.
أتمنى أن تقدمي خدمة لوطنك وأمتك في هذا المجال، كما خدمناه من قبلك، وأن يكون مركب التوفيق رفيقك في كل دربٍ تسلكينه، لكنني في كل هذا الأمل الذي أشرعتِ نوافذه فينا، أقف على شرفة القلب، وأردد مع شكسبير" هل أشبهك بيوم صيفي؟ أنتِ أجمل وأكثر اعتدالا….