اسماعيل الشريف يكتب : في ذكرى رحيلك السابـعـة عـشـرة أصدقاء أبي
يا ليت شعري ألا منجي من الهرم... أم هل على العيش بعد الشيب من ندم – شهاب الدين العزازي.
تقول الأسطورة إنه عندما مرض الإسكندرُ العظيم – وهو في الغالب ذو القرنين – بعد أن طاف مشارق الأرض ومغاربها ووصل إلى بابل في طريق عودته إلى مسقط رأسه في مقدونيا، أحس بدنو أجله. ولأنه كان الابن الوحيد لوالدته، خشي أن تجزع لفقده، فأرسل إليها عجلاً سمينًا ورسالة قال فيها: «إذا بلغك نبأ وفاتي، فاذبحي العجل واطبخيه، وادعي كل من لم يفقد أحدًا.»
فلما توفي الإسكندر، عملت أمه بوصيته، لكنها تفاجأت إذ لم يحضر الوليمة أحد، لأن كل شخص كان قد فقد عزيزًا. فقالت أمه: «رحمك الله، فقد تعلمت منك حيًا وميتًا!»
وأضيف، إذا سُمح لي: إن الإنسان في لحظة وفاته تزهد في عينيه كل مناصب الدنيا وأموالها، ولا يشغله حينها سوى العلاقات الإنسانية، فهي رأس ماله الحقيقي.
أنا مستمع جيد، أركض وراء الحكمة وأتعلم من الكبار. دائمًا عندما أجلس معهم، أسألهم عن تجاربهم في الحياة، وإذا سمحوا لي بالاسترسال في الحديث، أبدأ بسؤالهم عمّا هو مهم حقًا في الحياة، ما هي آمالهم؟ وما الذي يندمون عليه؟
عندما تقدم والدي في العمر، كنت أرافقه في بعض المؤتمرات التي كان يحضرها لأعتني به وأساعده. وغالبًا ما كان أعضاء الوفد من شخصيات عربية وإسلامية وازنة ومن خلفيات ثقافية متنوعة. ولأنني كنت أصغر المشاركين سنًا، كنت أتولى رعاية جميع أعضاء الوفد، وكثيرًا ما كنت أرافقهم فرادى إلى الأسواق، مما خلق نوعًا من الصداقة والثقة بيننا، وأتاح لي فرصة سؤالهم عن حياتهم الشخصية.
كانت أعمارهم لا تقل عن ضعف عمري، وأحيانًا تزيد عن ثلاثة أضعافه.
سألت أحد أكبر أثرياء العرب عن أكبر همومه، فقال: «إن أولادي لا يتحدثون مع بعضهم.» وسألت آخر، وكان رئيسًا عربيًا سابقًا هو سوار الذهب – ولم يشترِ شيئًا من السوق لأن الأسعار لم تكن في متناوله – عن أجمل فترة في حياته، فكانت إجابته صادمة: «عندما كنت ضابطًا صغيرًا، كان لدي الوقت لرعاية زوجتي وأولادي.»
قال لي الشيخ العلامة الجليل: «إن الزواج جميل، فأنا أحب زوجتي، لكن مع تقدمي في العمر، ما زال قلبي يتسع للحب وينجذب للنساء.» وأضاف: «لا أخشى الموت، فأنا أؤمن بأن الآخرة خير وأبقى، ولكنني أهاب الموت نفسه.» كانت جملة غامضة، لكنه أوضح قائلاً: «أتساءل كيف سيكون موتي؟ هل سيكون موجعًا، مع الكثير من الإبر والأنابيب والألم، أم سيكون موتًا سلسًا وسهلاً؟»
سألت رئيس وزراء عربيًا من دول المغرب: «هل تتمنى لو حققت المزيد من النجاح؟» فأجاب: «لا، بل أتمنى لو أنني عبّرت عن حبي لعائلتي أكثر. لو عادت الأيام، لآثرت أن أكون موظفًا عاديًا لأمنح عائلتي وقتًا أكبر. ما أفتقده حقًا في هذه الحياة هو زوجتي المتوفاة.»
وهذه القصص جعلتني أعيد التفكير بنظرية تُسمى «منحنى الحياة» (Bend of Life)، قرأت عنها قبل سنوات طويلة. وهي دراسة موسعة شملت بلدانًا وثقافات مختلفة، وخلصت إلى أن تعاسة الإنسان تبدأ غالبًا في العشرينيات من عمره، وتبلغ ذروتها عند سن السادسة والأربعين، ثم يعود بعدها للسعادة. ويُرجع العلماء ذلك إلى ضغوط الحياة، كالالتزامات المادية والمسؤوليات الأسرية. وعندما يشيخ الإنسان، يصبح أقل طموحًا، أكثر تصالحًا مع نفسه، ويعيش اللحظة دون الانشغال بالمستقبل، إذ يدرك أن الموت بات أقرب مما مضى.
كنت أعتقد أن كبار السن جميعهم متشابهون؛ عبوسون، كثيرو الرزانة والتصنع، يستعدون ببطء لوداع الحياة. لكن من خلال صداقاتي غير المتكافئة مع كبار السن، اكتشفت أنهم يعتبرون مرحلة الشباب الأجمل، يحنون إليها بشدة. ما زالوا يضحكون، يحبون، ويسعون للسعادة، لكن أجسادهم تخذلهم!
أريد قول شيء واحد على لسان أبي: رتب أولوياتك في هذه الرحلة القصيرة!
أبي تمر اليوم الذكرى السابعة عشرة على رحيلك، أفتقد حكمتك وأشتاق إليك بشدة، وأحنّ إلى نزهاتي مع أصدقائك، رحمك ورحمهم الله.
ــ الدستور