د. خالد الوزني يكتب : اقتصاد المصالحة والاحتواء
بقلم: أ.د. خالد واصف الوزني
أستاذ الاقتصاد والسياسات العامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
نشر الكاتب الأمريكي المشهور بالكتابة حول التاريخ الأوروبي، هربرت لوتمن، عام 1986 كتاباً تحت عنوان «غضب الشعب: العدالة والانتقام في فرنسا بعد التحرير»، تناول فيه الفترة الفوضوية والمشحونة بالعواطف التي تلت تحرير فرنسا من الاحتلال النازي الذي استمرَّ 4 سنوات خلال الحرب العالمية الثانية. وقد ركَّز الكاتب على ردود الفعل الشعبية والحكومية تجاه أولئك الذين تعاونوا مع المحتلين، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. قدَّم الكاتب تحليلاً مفصَّلاً وحيوياً للأحداث المتعلقة بهذه الحقبة، التي أصبحت تُعرَف باسم «عملية التطهير». حيث ظهرت بعد التحرير مشاعر الاستياء والغضب من المتعاونين مع الاحتلال، سواء بدافع البقاء أو تحت الإكراه، واتُّخِذَت إجراءات قانونية وغير قانونية ضدَّ هؤلاء الأفراد والجهات. وقد ظهرت حالة من الانقسام الشديد بين مَن قاوم بشجاعة، وبين مَن اختار التعاون والعيش في ظل الوضع القائم. وفي هذا الإطار وثَّق هربرت لوتمن ما قامت به الحكومة بقيادة شارل ديغول من تنفيذ لعمليات قانونية لمحاكمة المتعاونين، وإنشاء محاكم خاصة لذلك، وما شهده النظام القضائي من ضغوط هائلة فاقت قدرته. وجرت محاكمة سياسيين وصحفيين وصناعيين، جنباً إلى جنب مع موجة كبيرة تحت مُسمّى «العدالة الانتقامية» اتخذت أشكالاً عدة، منها الإذلال العلني، أو الإعدام الجماعي، أو الغضب العارم. وفي هذا السياق يشير الكاتب إلى أنَّ الحكومة الفرنسية واجهت حينها تحدياً كبيراً في توجيه وإدارة العواطف مع الحفاظ على النظام، وتطلَّب ذلك ضرورة الموازنة بين دعوات العدالة المستعجلة السريعة، والحاجة إلى إعادة بناء أمة موحَّدة مستقرة، مع صعوبة الحُكم أو الفصل بين الشعور بالذنب والمسؤولية والغفران. والشاهد أنَّ الكتاب يُعَدُّ دراسة مهمة ونوعية عن أخلاقيات الانتقام، ودور القانون والنظام في أوقات العاطفة، والعواقب الاقتصادية والسياسية طويلة المدى للانقسامات المجتمعية. ولعلَّ المنطق والعقلانية يتطلّبان أن يتمَّ النظر إلى الفاعلين في الاقتصاد الوطني، قبل وبعد التحوُّل، على أنهم جزءٌ من الموارد الوطنية، وأنَّ هناك فرقاً كبيراً بين مَن تلطَّخت يداه في هدر أو إفناء الموارد الوطنية؛ البشرية والطبيعية والمادية، سواء بالتخلُّص منها أو بسوء استغلالها أو بتجييرها إلى مصالحه الخاصة، أو مصالح مَن يخدمهم، وبين مَن قضت الوقائع أن يكون جزءاً من المسيرة. التحوُّلات في المنطقة اليوم تتراوح بين تغيير نُظُم وتجديد أخرى، وتلاشي قوى وظهور أخرى، وأُفول قدرات وبزوغ غيرها، وانتقال من أسلوب إدارة إلى آخر. مسيرة الوصول إلى هذه التحولات اعتوره هدر في الموارد وتعاون عن إكراه أو عن تضليل، أو حتى عن مشاعر تمَّ تجييشها بالحق أو بالتحفيز السلوكي. والمطلوب أن تتجدَّد المنطقة ودولها بالسموّ نحو المُصَالحة والاحتواء الكامل للموارد البشرية الوطنية المتاحة، من غير الملطّخة نفوسهم وأيديهم بهدر الموارد دموياً أو فساداً أو استغلالاً أو إفساداً. وكذلك حُسن إدارة واستثمار واستغلال الموارد الطبيعية والمادية الكبيرة التي تكتنزها المنطقة، ضمن معادلة من الحاكمية الرشيدة التي تتطلَّب بشكل واضح عدم الإقصاء، والارتكاز على أصحاب الاختصاص، والمعرفة والعلم، من الداخل والخارج، من المواطنين وغير المواطنين، والإيمان أنَّ في العالم تجارب عالمية مُثلى يمكن تطويعها أو قولبتها بما ينفع الاقتصاد والناس، وأنَّ العالم باتت تحكمه وسائل ووسائط اتصال لم تترك لأحدٍ مخبأً أو ملجأً أو مناصاً. في المنطقة العربية اليوم 5% من سكان العالم، جُلهم من الشباب غير المُستثمَرين وغير الحاصلين على المهارات الكافية لخلْق القيمة المضافة الحقيقية ممّا تكتنزه المنطقة من موارد طبيعية ومعادن تكاد يصل بعضها إلى ما يزيد على ثلثي احتياطيات الموارد الطبيعية العالمية. في حين أن مساهمتنا الاقتصادية العالمية لا تكاد تتجاوز 5% من إنتاج الاقتصاد العالمي. وفي الوقت الذي يماثل نسبة سكان المنطقة ما هو موجود في أوروبا وأمريكا تقريباً، إلا أنَّ مساهمة الآخرين في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تصل نحو 20% و16% على التوالي، وبتركيبة سكانية متقدِّمة في العمر. نحتاج إلى مصالحة واحتواء يستثمران في الطاقات الوطنية الشابة لترتفع قيمتها المضافة عبر التحوُّل من تصدير المواد الخام إلى تصدير منتجات العقل العربي المتقدّم، وإبداعات الشباب العربي وابتكاراتهم، حينها سترتفع مساهمتنا العالمية على أقل تقدير إلى خمس أضعاف ما هي عليه اليوم.