رشاد ابو داود : اغتيال بيت قديم!
يوقظك صوت هدم. شاكوش عملاق يدق رأس بيت قديم، يتبعه بالجدران. ينهار السقف وتدفن حكايات، تقع مضرجة بالذكريات. ويسدل الستار على تاريخ عائلة عاشت سنوات طويلة بعد أن بنت البيت من تحويشة العمر.
هنا ولد الأبناء، هنا لعبوا، هنا درسوا، هنا كبروا. كبر الأب والأم و..كبر البيت الواسع المحاط بالشجر. لكن الحياة ضاقت والرزق شح، وتكاليف الحياة التهمت كل ما يملكون.
في كل شبر من البيت ثمة حكاية. في الصالون كانت صوبة كاز تطورت الى غاز ثم الى « فاير بليس «. كانت كلها تبعث الدفء في الشتاء لكن مبعث الدفء الأهم كان دفء العائلة، حديث الوالدين عن أيام زمان، عن لذة الخبيزة والحويرنة والهندبة، عن طبخة المجدرة وفتة العدس التي كانت طبخة رئيسية مع الفجل والبصل الأخضر ومخلل اللفت والخيار، قبل أن تصبح شوربة مساعدة.
في المطبخ غاز بثلاث عيون بعد أن انقرض بابور الكاز. العين الصغرى لغلاية القهوة، الوسطى لأبريق الشاي والكبرى لطنجرة الطبيخ. ومنذ أن دخل الرز معداتنا متسللاً من الهند وشرق آسيا بدل مشتقات القمح، البرغل والفريكة وغيرهما، أصبحت طنجرة الرز تنتظر دورها بعد أن تستوي الطبخة.
الرز ليس سيئاً انما هو دخيل لا يناسب شعوب منطقتنا. قرأت مرة أن الله خلق لشعوب كل منطقة في العالم ما يناسب طبيعتها. والا لماذا وجد القمح في منطقتنا ولم يوجد في شرق آسيا والعكس صحيح. ولماذا كانت البطاطا بديلهما لشعوب أوروبا. لا أدري ما اذا ما قرأته صحيحا أم لا. لكن أتذكر عاملة أندونيسية لم تكن تأكل الخبز بداية مجيئها ثم اعتادت، وعندما غادرت الى بلدها أخذت معها ربطة خبز لتريه لأهلها.
حياة أهل البيت كانت بسيطة وسعيدة بلا تعقيدات و» متطلبات التطور «. ما يؤكل يعد في البيت فقط. لا مأكولات نصفها شحم ونصفها لحم تأتي جاهزة بكبسة زر « ديليفري «. ولا اكتظاظ في مطاعم تنتشر حتى في القرى البريئة. وفي المدن بين كل مطعم ومطعم مطعم. أما الشاورما التي لا أحد يعلم من ماذا وكيف تعمل فهي معشوقة الجيل.
البيت الذي كنت أطل عليه كل صباح ومساء من شرفة ونوافذ بيتي اشترته شركة اسكان. بدأت في اليوم التالي بهدمه، قتلت الشجر الذي معظمه مثمر، دفنت الذكريات الجميلة وسوت كل شيء بالأرض. سيحل محل الشجر أعمدة اسمنت خرساء، شقق بحجم علبة الكبريت في بناية من خمس طوابق ورووف مزين بقشرة قرميد.
الشارع لن يعود جميلاً كما كان. ستزداد البنايات وتقل البركات. لن تعود ثمة حديقة في كل بيت لقهوة الصباح وشاي المساء المعطر بالميرمية أو النعنع. أما الأطفال فلا بواكي لهم، لا حدائق ولا مساحة للعب الأستغماية، فقط أربعة جدران و»تاب» أو موبايل يجعلمهم غرباء عن بيئتهم وعن أهلهم و..عنهم.
لا تهدموا بيوت والديكم ففيها رائحتهم وصدى ضحكاتهم وفيها أنتم !! ــ الدستور